الصحافيون التنويريون.. لا عزاء لهم
هاني مسهور
الصحافيون ضحايا لبقايا حقبة مسمومة فكرياً اختطف خلالها كل من آية الله الخميني وجهيمان العتيبي العقل وأخضعاه لعملية تسميم مركزة بدأت في العام 1979 وامتدت إلى يومنا هذا، حتى وإن تم الادعاء أن زمانها انتهى، فهي ما تزال تعيش عن طريق مدعين بالوصاية على العقل البشري وأنهم وكلاء للرب على الأرض، يوزعون صكوك الغفران. هذه هي الحقيقة السائدة والعابرة والمؤسفة.
حوادث تنمر وتشهير مملوءة بالجهل تقودها مجاميع قطعان تردد ما زرع في رؤوسها في أيام الغفوة. هذه الحملات هي عملية اغتيال معنوي مباشر تستهدف الصحافي العربي وتحاول وأد كل تفكير يحاول الخروج عن الأطر المنغلقة التي أفرزها متأسلمون خلال عقود استحكموا فيها على مقاليد السلطة في المجتمع، وعبر التسلل داخل مؤسسات سيادية في دول المنطقة العربية الفاعلة، حيث تعرض الصحافي العربي لتعليقات مسيئة تتصف بقدر كبير من الجرأة والوقاحة، فاتحة باب التساؤل، لماذا كل هذه التجاوزات اللفظية المباشرة بحق الصحافي أو الصحافية؟الغالبية العظمى من المعلقين يشعرون أنهم في معركة مقدسة تستوجب استدعاء كل الموروثات العدائية للشخص المستهدف دونما مراعاة لخصوصياته بل وحتى آدميته. هذه الحشود المليونية التي تستهدف الصحافي التنويري تسترعي وقفة ضمير مع حالات استهداف خطيرة، فهي التي اغتالت فرج فودة في وضح النهار، كما أنها كانت الذريعة لمحاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ، والكثيرون أريقت دماؤهم على أرصفة الشارع العربي جهارا نهارا.
Û من حق الصحافي التنويري أن يكسر تابوهات الجهل المغلقة داخل مجتمعات فرضت عليها الإقامة خلف أسوار عالية حبست عنها النور والهواء
خلال أيام قليلة شهدنا حالتين من حالات الاغتيال المعنوي، الأولى تعرض خلالها الصحافي المصري إبراهيم عيسى إلى حملة ضارية بسبب آرائه. وفي الثانية تعرضت الباحثة السعودية نجاة السعيد لحملة كراهية بسبب زيارتها إلى دولة إسرائيل. الحالتان امتداد لحملات لم تنته تعكس طبيعة العقلية المتحكمة في توجيه الرأي العام والتحكم به، ممهدة لما هو أبعد وأشد خطورة من مجرد الاعتداءات اللفظية الموجهة. إن استخدام مجاميع من الجهلة في هكذا حملات استهداف يؤكد الحاجة إلى اتخاذ قرارات حماية دفاعا عن الصحافي العربي داخل المجتمعات العربية، حيث التشريعات القانونية ما تزال قاصرة ولا توفر ما يحفظ الكرامة.
سلطة المتأسلمين على العقل العربي هي واقع علينا الإقرار به، فالحرب على الإرهاب لم تصل بعد إلى مواجهة الفكر الذي أنتج العقلية الإرهابية، وسوغ لها الاغتيال المعنوي، وحتى الجسدي، ومنحها الحق في نحر ضحاياها.
ما اقترفه داعش من جرائم أصله فكرة خبيثة ما تزال تتعايش وتنتشر في مجتمعاتنا، فالحرب لم تصل إلى اجتثاث فكرة احتكار العقل والحقيقة والوصاية على الناس، كما لم تصل إلى نقطتها الصفرية، والمسافة ما تزال بعيدة بل وبعيدة جداً بتأثير من حشود مليونية من الغوغائيين الذين يحمون نواة الفكرة ويدافعون عنها فهي مصدرهم للبقاء.
الصحافيون هم الجدار الواطئ في عالم متوحش، فلا قوانين تؤمن لهم الحماية الوظيفية، ولا تشريعات تحميهم، وما تزال جرائم اغتيال راح ضحيتها شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تونس، ونبيل القعيطي في عدن، وسليم لقمان في بيروت وهشام الهاشمي في بغداد، مقيدة في المحاكم ضد قتلة مجهولين، بينما هم في الحقيقة معروفون ويوزعون فتاوى هدر الدماء بكل وقاحة وجرأة، حيث لا رادع يردعهم ولا قانون يلاحقهم.
Û سلطة المتأسلمين على العقل العربي هي واقع علينا الإقرار به، فالحرب على الإرهاب لم تصل بعد إلى مواجهة الفكر الذي أنتج العقلية الإرهابية
كون الصحافي التنويري عرضة لحملات التشويه والتنمر، هذا بحد ذاته إساءة في المجتمعات العربية التي ترتضي لنفسها أن تظل محبوسة في أقفاص الخميني وجهيمان. من حق الصحافي التنويري أن يكسر تابوهات الجهل المغلقة داخل مجتمعات فرضت عليها الإقامة خلف أسوار عالية حبست عنها النور والهواء، وحصرت نشاطها في استهلاك الغذاء وممارسة الشهوات وازدراء الآراء والأفكار.
الغوغائيون هم امتداد للخطاب الشعبوي الذي ألغى العقل العربي لتمرير أفكار دولة الخلافة، وهو الهراء الذي دفعت بسببه الشعوب ثمناً باهظاً من دمار وقتل وتشريد خلال عشرية الربيع العربي الدامية. وما يزال وسيظل هؤلاء يمارسون وظيفتهم حتى تعود عقولهم إلى الحياة الطبيعية ويعود العقل للتفكير والتقدير، ثم اتخاذه للقرارات دون وصاية من المرشد والإمام الذي يقودهم.
استدراك الوعي ولجم هذه الحملات يتطلب خطوة إجرائية فيها شجاعة تبدأ من الضحايا المحتملين. على الصحافيين العرب أن يرفعوا أصواتهم للتضامن مع أنفسهم أولاً، ثم المطالبة بحماية لأنفسهم ولمهنتهم المقدسة. الادعاء بحراسة الفضيلة طقوس دجل، ونتاج حقبة آن لها أن تطوى لتفتح حقبة أخرى أمام حراس الوعي والتنوير والإرشاد.