وفي عدن بقايا من ثوب خاشقجي
هاني مسهور
ثمة ما يدفع إلى التساؤل وبصوت مرتفع، لماذا لا تتم تغطية حوادث الاغتيال والتفجيرات في عاصمة الجنوب العربي عدن؟ وهل من المنطق أن تتجاهل وكالات الأنباء الصحافية وكافة المنصات الإعلامية حوادث دموية بشعة ترتكب بحق صحافيين يدفعون حياتهم بمفخخات زرعت تحت مقاعد سياراتهم، أو من رصاصات تنطلق من مسدس تنهي حياتهم، ولا تجد لهم من بعد مقتلهم من يبكي عليهم سوى أمهات مكلومات وزوجات ثكلى وأبناء ميتمين؟
هذا ملف ليس مسكوتا عنه فقط، بل ممنوع الحديث فيه والاقتراب منه. فهناك من المحاذير الكثير، ومن الهواجس والخوف والرعب ما يكفي للابتعاد عنه وتركه.
المقتول صحافي من جنوب اليمن، وهو بعيون المتأسلمين شيوعي سابق، وفي نظر عرب الوحدة القومية انفصالي يستهدف تفتيت أمّة لم تكن يوماً واحدة إلا في المخيال العربي وفي أناشيد وأغنيات محبوسة في أزمنة غابرة.
Û بعد أن تمكنت تلك الأجهزة المخابراتية اليمنية من إتمام سيطرتها على العقل الصحافي العربي والعالمي بأدواتها، بات من الصعوبة اختراق الحواجز بغير هكذا استهلالات
بتلك العيون ينظر إلى عدن، باعتبار قضيتها قضية مرفوضة، وعليه فإن كل ما يجري في تلك البلاد يظل طيّ الكتمان، ولا يجد له في الإعلام مكانا يذكر.
ولهذا لم يجد حادث اغتيال الصحافي نبيل القعيطي مكانا له في نشرات الأخبار، سوى أن يكون خبراً عابراً ضمن سلسلة من الأخبار اليومية. ولم تخصص للحادث مساحة للبحث والتنقيب للكشف عن خلفيات عملية استهدفت صحافيا اغتيل في وضح النهار بعد تغطيته للحرب بين ميليشيات الإخوان في اليمن والقوات المسلحة الجنوبية في محافظة أبين.
كانت حادثة بشعة وجريمة مكتملة الأركان، بل ومعروفا على الأقل المحرض عليها، ومع ذلك غضت وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية النظر عنها، فالجثة ليست جثة سعودي ليتم توظيفها واستخدامها سياسياً وتستهدف في القضية الجنائية بلاده كما حدث في قضية جمال خاشقجي التي تاجر بها اليساريون والمتأسلمون وحتى الفارغون.
مشكلة الصحافة الدولية والعربية مع قضية الجنوب ليست معقدة، بل هي مشكلة معروفة ومحددة، فبينما كان نظام صنعاء بعد احتلاله للجنوب إثر حرب صيف عام 1994 يفتح الطرقات للأفغان العرب ليدخلوه باعتباره ماركسياً وآخر جيوب الشيوعية المهزومة للتو في الحرب الباردة، كان الإسلاميون، بكافة مذاهبهم وأطيافهم، يرفعون التكبيرات بانتصارهم على آخر الماركسيين في الجنوب، وكان القوميون كذلك منتشين بتثبيت وحدة اليمن، ولو كان ذلك بالضم والإلحاق قسرا واحتلال بلد عربي، لا فرق بينه وبين الكويت، التي كانت قد تعرضت لغزو عراقي غاشم أنكرته عدن ووقفت مع حق الكويتي في بلاده، وكذلك الحال في فلسطين التي ظلت، رغم كل الجحود الفلسطيني، قضية عدن والجنوب، بينما كتائب منظمة فتح تشارك نظام صنعاء غزو الجنوب.
الرئيس السابق الراحل علي عبدالله صالح انتهز خلال احتلاله للجنوب الفرصة لبث رسائل عدائية فجة موجهة ضد الدول الخليجية التي رفضت الغزو اليمني العسكري، واستغل تلك الفرصة بتغذية كل المؤسسات الإعلامية العربية والدولية بأفراد تم تجنيدهم في أفرع الأمن السياسي (المخابرات)، كانت مهمتهم، وما تزال، هي التستر على ما يحدث في المحافظات الجنوبية من جرائم وانتهاكات. تلك العملية تمت وتسلل أبناء الحجرية إلى مفاصل الإعلام العربي والدولي وأصبحوا يتحكمون بما ينشر وما لا ينشر من خلالها.
علي عبدالله صالح هو من حول السفارات اليمنية حول العالم إلى أوكار لأجهزة الاستخبارات، أوكلت إليهم مهام ملاحقة الجنوبيين والتحريض عليهم وإلصاق التهم بهم ومطاردتهم تحت كل أرض وسماء.
الوشايات لاحقت الصحافيين الجنوبيين في كل مكان، بينما انتشر اليمنيون برعاية نظام صنعاء في مختلف الصحف والوكالات وتمتعوا، وما زالوا، بأنواع الدعم المالي والمعنوي من كل رجالات الدولة العميقة في اليمن، حتى بعد سقوط نظام عبدالله صالح استمر الدعم لكل صحافي ينتمي إلى الشمال على حساب الصحافي الجنوبي.
المهمة كانت وما زالت، وإن لم يتغير الحال ستظل هي التستر على ما يجري في الجنوب من جرائم وانتهاكات، بل وتجويع جماعي وإفقار للمجتمع الجنوبي، بهدف إذلاله وإخضاعه لإرادة بيت الحكم الزيدي. ويبقى الجنوب محكوماً من قبائل الشمال باسم الوحدة اليمنية التي يقدسها المتأسلمون، شيعة وسنة، في إطار معتقداتهم الدينية بما يسمى دولة الخلافة وغيرها من الخرافات والأساطير التي يؤمنون بها ويكفرون بالدولة الوطنية.
الصحافيون يبحثون عن أرباع وأنصاف القصص الإخبارية في كل مكان حتى في الفضاء الخارجي، فهذه مهمتهم وعملهم بل وشغفهم الصحافي، إلا عندما يتعلق الأمر بقصة قادمة من عدن أو من الجنوب العربي، حيث تبدأ عملية تستر، حتى وإن تعلق الأمر بعملية اغتيال صحافي بسيارة مفخخة، فهذا خبر سيفتح نقاشاً ويؤدي إلى حديث مفتوح حول علاقة الأنظمة السياسية بالتنظيمات والجماعات الإرهابية.
الإرهاب في جنوب اليمن معروف من يقف وراءه بوضوح، ولا يحتاج إلى إثباتات، فالوقائع والشواهد حاضرة، ولكن هناك تستر يحدث من الصحافة لكي لا تسبب الحرج لصنعاء، وتكشف الأسرار عن أمور لا يراد للمواطن العربي أن يعرفها، ليس آخرها أن النظام السياسي في صنعاء كان شريكا في تأسيس تنظيم القاعدة الإرهابي ومنح أفراد التنظيم جوازات سفر يمنية ورتباً عسكرية.
كان لا بد من استخدام اسم خاشقجي للولوج إلى هكذا حديث يمنع التطرق له بحجج واهية. وبعد أن تمكنت تلك الأجهزة المخابراتية اليمنية من إتمام سيطرتها على العقل الصحافي العربي والعالمي بأدواتها، بات من الصعوبة اختراق الحواجز بغير هكذا استهلالات، علّ وعسى أن تنجح في التنبيه إلى أن هناك كثيرا من القصص التي يمكنها أن تتصدر نشرات الأخبار وتعيد للصحافة الاستقصائية روحها في بلاد عاشت العتمة والتعتيم. وحتى يتسلل شيء يسير من الضوء لا بد من مخاطرة كاتب يكتب على أمل أن تلتفت الصحافة العربية على الأقل إلى قصة مأساوية تم التستر عليها طويلاً، وجيء لها بالكثير من شهود الزور الكاذبين الذين تسللوا وخطفوا من صاحبة الجلالة جلالتها.