ما بعد سقوط خرافة الإخوان المسلمين
هاني مسهور
منذ 1996، بدأ أفق ما بعد الإسلاموية يطرح كمقاربة مهمّة لفهم التحوّلات الحثيثة التي بدأت الحركات الإسلامويّة تشهدها في تسعينات القرن الماضي.
ورغم أنّ هذا الأفق كان واضحا للمختصّين في الألفيّة، إلاّ أنّ تبلوره الأهمّ كان في الربيع العربي، بسبب الانتقال في هذه الحركات من خطاب الواجبات إلى خطاب الحقوق، ومن خطاب الأسلمة بالدولة إلى خطاب إعفاء الدولة من الأسلمة. فإذا كان العدول إلى أمر الله معرّفا أساسا للحركات الإسلاموية، وبالتأكيد حركة الإخوان المسلمين، التي كان من أسباب تأسيسها إعادة تنظيم المسلمين في نظام الخلاقة الذي أُسقط في 1924 (وكان حسن البنا نفسه يقود عمليات حصب ورشق الملاهي والمراقص التي اعتبرت غير إسلاميّة)، فإنّ خطاب التنمية والاعتدال سرعان ما صار المعرّف الأساس لهذه الحركات في ظلّ تحوّلاتها السياسيّة، بعبارة أخرى إنّ ما بعد الإسلاموية هي تقليد الانتقال من إصلاح المسلمين على منوال الكتاب والسنّة إلى تقديم البرنامج التنموي الأفضل بالنسبة لهم في السياق الدّيمقراطي والحقوقي.
إن جزءا أساسيا من التحوّلات إلى ما بعد الإسلامويّة تعلق بالتحوّلات الجيليّة للإسلامويين وبالأخص ظهور اتجاه أجيال جديدة ورعة فيهم من الطلاب والشباب والنساء والمفكّرين، الذين شكّلوا بالوعي الحداثي والحقوقي العلماني. إلا أن جزءا آخر تعلق بخطابات ورعة ليست بالضرورة منضوية في صفوف الإخوان المسلمين، ويتعلق الأمر مثلا بالتقاليد الخطابية للوعاظ في التلفزيون والخطباء والمنظرين والممارسين الورعين، الظاهرة المؤثرة في سياق الرّبيع العربي. وكانت مساهمة هؤلاء هي إقناع الطبقة الوسطى بإمكانية أن تعيش الحياة الحداثيّة بطبيعية، مع تقديم تنازلات طقوسيّة طفيفة.
ويُعدّ عادة من بين هؤلاء، الذين يوصفون بالتساهل بعض الإخوان، إلا أن الإشارة عادة ما تكون إلى الفتاوى المتصالحة مع أنماط الحياة الحديثة التي أتاحها بعض علماء الإخوان كـ”زواج فريند” لعبدالمجيد الزنداني، الذي أجاز نمطا من المواعدة بمنافعها الجنسية كانت تهدف لاستقطاب ما يمكن من مجاميع الشباب تحت مضمون (عصرنة) الفتاوى. هوجمت أطروحة ما بعد الإسلاموية من عدّة زوايا، ما سمح لطارحيها بأن يُرمموها ويحصنوها من بعض الفهوم الابتدائية، وبالأخص من ناحية النظر إليها على أنها إطار تأريخي يقدم قصة متقادمة لنمو الإسلاموية.
إن ما بعد الإسلاموية ليست شرطا ختاميا للإسلاموية؛ بل يحدث أن تسبق الأولى الأخيرة، كما حدث في التجربة المهديّة في السودان.
إن ما يبدو من التاريخ السوداني هو أن الحركة الإسلاموية السودانية قامت على أنقاض آراء ما بعد إسلاموية. عندما يتجه الإسلامويون إلى الديمقراطية بصفتها استراتيجية ديمقراطية ناجعة للتعامل مع خصومهم وذلك بدعوة الجماهير بالوسائل الشرعية وبـالتعددية باعتبار أسس النفاذ إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة والعمل معها دون استهداف اختلافها، فإنّهم يصابون بذلك إلى ما بعد الإسلاموية.
وبهذا المعنى فإن ما بعد الإسلاموية ليست “أطروحة مناقضة” للإسلاموية ولا هي “إسلاموية متنكرة”، وإنما هي بالأحرى إسلاموية مفعمة بالديمقراطية والتعددية، إنها تمثل إمكانيّة الإسلاموية أن تُنمي لغة واستراتيجية سياسية جديدة وأن تولّد فاعلين جددا.
فبعد أربع تجارب سياسيّة للأحزاب الإسلاموية متمثلة في تقليد الرؤية الوطنية الذي قاده نجم الدين أربكان منذ السبعينات، وبالأخص منذ ما سمي بـ”الانقلاب ما بعد الحداثي” في 1997 انقلب الإسلامويون في حزب الفضيلة فجأة من رافضين للحداثة العلمانيّة إلى قابلين لها، ومن رافضين للأوربة إلى منافجين عنها. وإضافة إلى عامل التأطير العلماني، ولو بالقسر السياسي، فإنّ عوامل أخرى غير سلبيّة ساهمت في بلورة هذا التحول كظهور طبقة وسطى إسلاموية واسعة في تركيا لم تعد متناقضة مع الممارسات الحداثيّة (بما فيها المنافع الربوية) كما لم تعد مخاطرة بمكانتها وحظوتها في صراعات سياسية أيديولوجيّة مع العلمانية؛ وإنّما وجدت نفسها في إطارات هذه العلمانيّة.
وفي كل هذه التحولات كانت الحركة الإسلامية مقادة بتنظير فكري جديد أو بتحولات جماهيرية غير مألوفة.
ولعل هذه التحولات، التي لم تشهد ثورة وطنية إلاّ في مصر، ساهمت في إحقاق قطيعة ما بين تيارات الإسلام السياسي بالمغرب العربي، وبالأخص تونس والمغرب والجزائر (وليس بالضرورة ليبيا) وتياراته بالمشرق، وبالأخص بمصر وسوريا واليمن وفلسطين.
ضاقت هوامش المناورة على الإخوان المسلمين حتى بعد أن أعلنت حركة النهضة في تونس وكذلك المركز الأصيل للتنظيم في مصر المراجعات التاريخية لم يستطع التنظيم تمرير نتائج المراجعات على قياداته، مما أفشل تمريرها بالتالي على قطاعاته ودوائره وضيق الخناق على أن يستعيد الإخوان دورهم السياسي وبالتالي فقدوا فرصهم في مجتمعاتهم التي بدأت فعليا في إنتاج أنماط سياسية مدنية باتت تتبلور بشكل أوضح في مصر وتونس، على اعتبار أن الأنظمة السياسية التي أخمدت الإخوان نجحت في تحقيق استقرار أمني وتحاول إيجاد مقاربات اقتصادية تعالج من خلالها أزماتها الاقتصادية والمجتمعية.
الرهان اليوم يبدو معلقا على دور السعودية والإمارات في استمرار البلدين على منهجية سد المنافذ لجماعات الإسلام السياسي، فالجهود التي أدت لانحسار هذه الجماعات كانت كبيرة ونتج عنها أن الشعوب العربية باتت أكثر وعيا بما تمثله هذه الجماعات، وتظل مسألة تقديم نماذج الاعتدال السياسية تحتاج لمزيد من الإثراء السياسي والاستفادة من التجارب السياسية الناجحة لتقديمها لشعوب عربية باتت تدرك أن حصولها على كرامتها لن يأتي عبر شعارات الإخوان، بل عبر تنمية اقتصادية وحوكمة تضمن تجفيف الفساد في المؤسسات الوطنية العربية.