محمد علي باشراحيل.. أيقونة عدن
د. هشام السقاف
ان السيد محمد علي باشراحيل (4/ أبريل/ 1919م) عنواناً لمرحلة وطنية طابعها العام الغضب الجماهيري والعنفوان الشعبي كمحصلة لتفاعلات جد عميقة في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية بعيد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في العام 1945م، ومسرحها عدن والجنوب، وكأنها شبيهة بنداءات الروح لتفعيل العقل باتجاه تخلقات إرادوية تفيض -كحتمية تاريخية- بقطرة الإفاضة التي تحدث عنها الفلاسفة كثيراً دون أن نشذ نحن عن تلك الحقيقة.
لاشك أن القوى العالمية الشابة والخارجة من غبار تلك الحرب منتصرة ما كان لها أن تعمد بمسوح المحبة الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية بوجهيها الانجلو - فرنساوي.
دون أن نبرئ الجديد الصاعد بوجهيه السوفيتي - الأمريكي من تطلعات إمبريالية بأساليب الاستعمار الجديد، لكن الثنائية بتوازن الرعب بين طرفين وإنشاء معسكريهما في أجواء الحرب الباردة، وفي ظل استقطاب الأيديولوجيا لحثيث بينهما، تتشكل الكتلة الثالثة من رحم الثورات التحررية في العالم، وتستطيع الآن أن تجد كيانها المحايد بين القوتين الأعظم (بلدان عدم الانحياز) بفضل كاريزماتية غير مسبوقة لزعماء مصر ويوغسلافيا والهند: جمال عبدالناصر وتيتو ونهرو.
لقد استفادت الحركة الوطنية في عدن والجنوب من متاحات الليبرالية الاستعمارية، بما في ذلك الطبقة العمالية في طور النشأة والتشكل في عدن بأن تمضي قدماً في التعبير عن تطلعاتها السياسية التي كانت جزءا من، أو هي ارتداد لهزات قوية أحدثتها الثورة العربية في مصر بزعامة عبدالناصر، وتحديداً من العام 1954م، مع روافد أخرى عربية وعالمية.
في هذه الأجواء يتصلب عود الباشراحيل الأب في العمل الوطني والمدني ليرسم صورته بألوانه الخاصة حتى أثناء تحزبه في البيت الحزبي الأول (رابطة الجنوب العربي) التي يمتد حبلها السري إلى ما قبل التأسيس العلني في العام 1951م بنضج أفكارها باكراً لدى الأمير علي عبدالكريم -قبل توليه السلطنة- واستمرارها كعقيدة سياسية أو منها جنوبي جامع، يشاطره فيه رجال أفذاذ أمثال السيد محمد علي الجفري، في مقابل وعلى تقاطع مع الفكرة البريطانية المضنية (اتحاد محميات الجنوب العربي) كلفت السلطان علي كثيراً، ليس الحكم فقط وإنما العقاب البريطاني المخملي على لحج حتى اليوم.
وأستطيع أن أفهم مدى قابلية الرابطة ومرونتها كجبهة وطنية عريضة، أن تضم جل القيادات المستقلة للعمل الوطني من ذات اليمين واليسار والوسط لتلعب هذه من قنواتها الحزبية الجديدة أدوارها التاريخية اللاحقة.
كان السيد محمد علي باشراحيل صوتاً متميزاً داخل الرابطة، وهو ما تغفله كثير من التاريخيات المدموغة بحس أيديولوجي أو سياسي.
فمن خارج دوائر التحزب المبكر يحدد باشراحيل نضالاته بالانحياز لمواطنيه في دائرته أو أثناء ترؤسه للبلدية، الانحياز الذي يذهب دفاعاً عن المواطن في عدن هويته ولغته وحقوقه المشروعة.
لم يكن صوتاً خاملاً بل مدوياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونستطيع أن نُحيد “الرقيب” و “الأيام” لنجد الباشراحيل قد حدد خياراته الوطنية ليس كما تذهب بعض الكتابات التي لقنت ما تقوله عن رجالات عدن البارزين بوحي حزبي أو أيديولوجي في فترة الانقطاع التعددي الذي رافق دولة الاستقلال الوطني ابتداء من العام 1967م، وإنما بالتحرك الموضوعي المستقل لصالح عدن والجنوب حتى اليمن وكذا الوطن العربي كما ستعكس ذلك بجلاء صحيفة “الأيام” 1958 - 1967م.
في فترات مبكرة ضمن تمخضات المشهد الثقافي في عدن على عتبات وبعد الحرب الكونية الأخيرة يستطيع الباشراحيل الأب أن يكون أحد واجهات “نادي الإصلاح الأدبي” و “حلقة شوقي” ثم لن يعوزنا البحث لالتقاط سمات الأستاذ محمد علي باشراحيل الأدبية وهي تتجلى لآلئاً منتقاة من أقواله وافتتاحياته في صحيفة “الأيام” وحتى في صولاته وجولاته بالمجلس التشريعي أو البلدي كان الدفاع عن اللغة العربية -وهي الهوية دون مهارة- واحدة من قضايا وهموم عدن كما يراها الأستاذ. وغير بعيد عن ذلك الصوت بالمعنى التأصيلي للهوية مع فارق زمني، يعيد الأستاذ عبدالرحمن جرجرة، وزير المعارف، الأمر إلى نصابه باعتماد يوم (الجمعة) عطلة أسبوعية لطلاب المدارس.
لقد ذهبت القراءات وحتى الدراسات على قلتها لتفحص مضامين الكتابة عند الباشراحيل في فترة إعادة الاعتبار التي نفضت عن هذه الشخصيات الوطنية المرموقة غبار وأتربة التزييف التي جاءت بها رياح المراهقة اليسارية بعد استقلال الجنوب. ولم تلتفت هذه الكتابات إلى مبنى وأسلوب الكتابة عند الباشراحيل؛ الذي أزعم أنه متسق مع ثقافة الأستاذ وبالاقتراب لغة من أسلوب الأستاذ محمد حسنين هيكل، لكن الأسلوب ليس وحدة صلة الرحم بين الرجلين، فـ (ليبرالية) باشراحيل لا تخفي اتجاهاته القومية، وقد كان لها ثمنها المكلف والمدون في ثنايا السيرة الذاتية للرجل في نزالاته مع ما يفرضه قانون الصحافة في عدن المستعمرة. أما الكلفة الأخرى مادياً ونفسياً من أطراف تنتمي للذات الوطنية فإنها تذهب حد الترويع للبيت الآمن بقنبلة قبل أن يأتي طوفان المنع للحريات الصحفية بعد الاستقلال.
إن الحبل السري الذي يغذي ملامح وتكوين هذه الشخصية المرموقة هي (عصامية) الرجل الشبيهة بـ (الناحت) في الحجر. فمن الكتاتيب والمدارس المتواضعة تختلق مدارك الوعي والفكر لتصل عبر تعليم الذات بالذات، إلى إلمامة باللغة الإنجليزية كأحسن الكاتبين والناطقين بها في عدن. أما تجليات النشاط الإعلامي والسياسي فيكمن قراءته ناصعاً من مشروعه الصحفي الكبير صحيفة “الأيام”، الصادرة في العام 1958م واستمراريتها حتى اليوم بالرغم من الانقطاع القسري بسبب دكتاتوريات الحكم، بين فينة وأخرى، لتنهض من جديد كالعنقاء والخارجة من الرماد، بتراتبية الأجيال (الباشراحيلية) المتعاقبة على حمل رايتها التي رفعها بدء السيد محمد علي باشراحيل. رحمه الله.