أين موقع أصحاب رأس المال الجنوبي في مستقبل الجنوب القادم؟

دائما ما يغيب عن واقع عملنا السياسي مسألة الاهتمام برأس المال الجنوبي، و دائما ما نبتعد عن تلك الزاوية التي يُقام عليها أحد أهم أعمدة بناء الدول في العالم، ونزداد بعدا أكثر كلما اقتربنا أكثر من سلطة القرار والحكم في البلد. إنه مشهد يتكرر مع كل واقع سياسي جديد يتكون في الجنوب. 

فكم يلجمنا الحزن حين نرى رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال من أبناء هذا البلد وكأنهم الوحيدون الذين نستثنيهم من دائرة مجالسنا ولقاءاتنا السياسية التي تُعقد هنا وهناك بين القيادة السياسية للمجلس الانتقالي وبين مختلف القوى السياسية في البلد، والأغرب من ذلك كله حين نتذكر كيف أننا جعلنا من مظلوميتهم ومن الاقصاء الذي عانوا منه طوال فترة احتلال الجنوب أبرز القضايا التي هبينا لنصرتها وأشعلنا لأجلها ثورتنا التي أضحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافها.

ربما من الحكمة أن نبعد أصحاب رؤوس الأموال عن دائرة أو سلطة العمل السياسي في البلد، لكن ليس من الحكمة أن نغيّب دورهم الاقتصادي و التنموي ونتجاهل دورهم ذلك أو نجعله في أدنى سلم أولويات العمل السياسي.

نقول هذا ونحن نرى بعض السلوكيات التي طالما حذرنا منها، ونخشى أن تستمر وكأنها نتاج ثقافة تأصلت فينا ويتحدد على أساسها نهجنا وتوجهنا نحو استعادة وبناء دولتنا، خصوصا تلك التي بسببها أضعنا بلدنا وأحرمنا أنفسنا وأجيالنا من نعيم وخيرات هذا البلد المعطاء. 

من يجهل منا تلك السياسات والممارسات التي بسببها تهدّمت أحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها بناء الدولة، وأحد ركائز النهضة والتطور في بلدان العالم وهو رأس المال الخاص في البلد؟ ومن ينسى كيف كنا نخطط "بغباء" لبناء اقتصاد بلدنا بعيدا عن إشراك أبناء هذا البلد من أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال في عملية البناء والنهوض والتطور لهذا البلد، ومعتمدين على ما ستمليه علينا مؤلفات الاشتراكية والتوجهات الشيوعية آنذاك، ولم ننتبه حينها أننا كنا نسير في طريق مغاير لحال الشعوب التي من حولنا والمحيطة بنا، ولا كيف أقحمنا أنفسنا في اتباع نهج لم نفهم من نظرياته وتوجهاته غير مصطلحات وجمل كنا نرددها بحماس معتقدين أنها الوسيلة الوحيدة لـ اللحاق بشعوب العالم المتقدمة.

ربما من غير المناسب أن نقيّم هنا واقع التجربة التي عاشها الجنوب قبل اعلان الوحدة مع الشمال، لكنني قد أجد ذلك ضروريا حين يتعلق الأمر بمراجعة النهج الخاطئ الذي انتهجناه منذ ما بعد استقلالنا عام 1967م، والذي بسببه أفرغنا بلدنا من رؤوس أموال أبنائها الذين كان لهم الفضل في نهضة وازدهار البلدان المجاورة والشقيقة التي احتضنتهم.

نعم لقد فعلنا كل ذلك من أجل أن نفسح المجال لنجاح تجربة نظام اقتصادي جديد آنذاك، أسوأ ما فيه أنه قام على أنقاض رأس المال الخاص الذي كان الأساس في نهضة الدول المجاورة والشقيقة، والأسوأ من ذلك أنه أوكل للدولة القيام بالدور الاقتصادي البديل لدور القطاع الخاص وذلك في ظل دولة حديثة الولادة، هشة البنية، تحكمها العقلية العسكرية والسياسية. لذلك يمكننا القول أن فشل تلك التجربة كانت نتاجاً للصراعات السياسية التي كانت قائمة حينها أكثر من كونه نتاجا لفشل طبيعة ذلك النهج أو النظام الذي تم اتباعه حينها (الاشتراكي)، فحتى إن لم تفشل تجربة ذلك النظام عالميا فمن المستبعد أن تستمر على مستوى الجنوب لأسباب كثيرة لا يتسع المقام هنا لعرضها، ولعل الصراعات التي سادت في تلك الفترة كانت أهمها.

لن أعرّج هنا على الماضي كثيرا، ولن اتفرغ لانتقاده حتى وإن كنا نرى اليوم بعض أخطائه تتكرر من جديد على مشاهدنا ولو بحدة أخف. فالأخطاء كثيرة والجميع يدركها، لكنني سأتكلم هنا عن بعض أخطاء نراها تتكرر أمامنا ولعل ذلك يعود إلى عدم استيعابنا بشكل كافي لأخطائنا في الماضي.

فاليوم يتكرر على مشهد واقعنا السياسي التجاهل لدور أصحاب رأس المال من أبناء هذا البلد بشكل يشبه ذلك التجاهل الذي كان في  الماضي، ولو أنه قد يختلف معه من حيث الأسباب، فالتجاهل من سابق كان بفعل النظام أو النهج الذي انتهجه البلد، أما اليوم فتجاهلهم ربما يتم عن جهلٍ منّا لدورهم المهم في النهوض بهذا البلد باعتبارهم شركاء أساسيين في استعادة وبناء دولتنا المنشودة.

وعندما نتحدث عن أصحاب رؤوس الأموال ورجال المال والأعمال فأننا نستثني هنا أولئك الذين يسعون لجعل استثماراتهم غطاء لأجندات سياسية وأهداف مسيسة يسعى الكثير منهم إلى تحقيقها خدمة لقوى معادية لا تريد لنا أمنا ولا استقرارا ولا ازدهارا. 

فبالأمس رأينا عددا من اللقاءات التي جمعت قيادة المجلس الانتقالي مع قوى سياسية مختلفة في الجنوب، رأينا لقاءاتها مع الشباب ومنسقية الشباب، ومع الأكاديميين الجنوبيين، ومع المرأة الجنوبية...الخ. لكننا لم نر لهم أي لقاء أو تواصل مع رجال الأعمال الجنوبيين، بل لم نسمع حتى في الخطابات والبيانات السياسية التي تصدر عن قيادة المجلس الانتقالي ما يؤكد على حرص القيادة السياسية للمجلس بهذه الفئة من المجتمع الجنوبي باعتبارها الفئة الأكثر مظلومية فينا كجنوبيين، ومصدر ظلمهم - للأسف - ليس الاحتلال اليمني فحسب، فظلمهم من أبناء جلدتهم قد سبق ظلم الاحتلال لهم، ولذلك كان ينبغي أن يكون الاهتمام بهم من أولويات عمل المجلس أولا (قولا وفعلا).

وكثير هي القضايا التي يجب على المجلس الانتقالي أن يبحثها ويناقشها مع رجال المال والأعمال الجنوبيين، وليس من الحكمة تأخير ذلك، بل أن سرعة اللقاء بهم والتنسيق معهم للاضطلاع بدورهم التنموي والاقتصادي أمر في غاية الأهمية ولا يقبل التهاون أو التأخير، خصوصا في ظل مخططات خطيرة لإغراق الجنوب في مستنقع من الأزمات الاقتصادية، نستشفها اليوم بشكل واضح من خلال جملة من القرارات والإجراءات التي تهدف إلى جعل الجنوب يعيش في دوامة من الأزمات المتتالية.