فلنبحث عمن ضاعوا في صندوق وضاح اليمن وفي بئر يوسف
- ثمة أجيال روائية عربية وُلدت من رحم الشعر إلا أن تجربتها الكاملة تشكلت في أحضان السرد، خصوصًا مع ما يتيحه التجريب الروائي من حرية واسعة في مساءلة الواقع والتاريخ والنبش في قضايا مسكوت عنها أو تحمل قدرًا من المغالطات التاريخية. “العرب” حاورت الشاعر والروائي الفلسطيني إياد شماسنة حول فضاءات روايته الجديدة “الرقص الوثني” وتجربته الروائية والشعرية
في روايته الصادرة مؤخرًا بعنوان “الرقص الوثني” اختار الروائي والشاعر الفلسطيني إياد شماسنة التقاطع مع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني. في روايته التي تتعرض لإشكالية الهوية يلفت شماسنة إلى أنه يهدف من خلال هذه التقنية إلى ربط الأجيال معا؛ أجيال الروائيين وأجيال الشخصيات الفنية، خصوصا مع استمرار الصراع على الهوية والأرض والجدل حول تعريف من هو الفلسطيني ومن هو اليهودي.
فضاء مشتبك
رواية “الرقص الوثني” هي الثانية للكاتب بعد رواية بعنوان “امرأة اسمها العاصمة”، وهي الخامسة في مجمل أعماله المنشورة. يوضح شماسنة أن الرواية تتكون في فضاء متسع ومشتبك تلعب فيه الشخصيات المتنوعة من يهود وعرب، بكافة المكونات من أشكناز وسفارديم وعلمانيين، ومسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم، في مسرح فلسطين التاريخية المحتلة. زمن الرواية بين عامي 2014 و2016، بينما يمتد الزمن الداخلي عودة إلى عام 1948، حيث نسي اللاجئون أولادهم في حمام الدم، الذي قصد منه المحتل محو أهل البلاد، وإنشاء شعب جديد.
يلفت الروائي الفلسطيني إلى أن ثمة دوافع حرضته على كتابة هذه الرواية، على رأسها تحقيق الجمال في العمل الإبداعي ثم رواية الرواية الخاصة أمام الرواية المتغوِّلَة التي يروج لها النقيض المعادي، فرواية “الرقص الوثني” تروى من عقر مقر الآخر المحتل، وعلى لسانه كيف يحكم الجنرالات، وكيف تمحى الشعوب، وتسحق الذاكرة، وتقام الجدران لتفصل بين أرض وأرض، بشر وبشر، تتحدث عن كولونيالية مستمرة مدعومة بخطط وميزانيات هائلة، تجند الأكاديمي والديني والأسطوري والتاريخي، تقدم التأويل وتنقض كل تأويل يخالفها بكل قوة.
يتابع شماسنة “أزعم أننا ما زلنا أسرى إشكاليات تبعدنا عن كتابة رواية فلسطينية الهوية، فلسطينية الثيمة والمعضلات، أولها أننا ما زلنا نرى أننا أبطال أسطوريون خارقون، لا يوجد لدينا مشكلات، حتى أبطالنا الروائيون معقمون، مطهرون، في ‘الرقص الوثني’ تجد الإنسان العادي، من أية قومية أو أصول، يتصرفون على طبيعتهم، يخطئون، يضعفون، ينقضون عهودهم، يحب العربي امرأة يهودية ثم ينبري للدفاع عن أبناء بلده ضد المستوطنين، يبيع التاجر الأرمني القطع الأثرية ثم يرفض بيع بيته للجمعيات الاستيطانية، وهكذا. ومن جهة أخرى، أردت القول إننا ما زلنا في وعينا العميق، وفي منتجنا الفني نتعامل مع إسرائيل التي عرفناها عام 1948، أعتقد أن إسرائيل المعاصرة مختلفة تماما، انتهى عصر الآباء المؤسسين للكيان، وهناك معادلات مختلفة وجديدة طرأت، إسرائيل الجديدة أكثر عنفا ونعومة وتغولا”.
يؤمن شماسنة بأن الرواية الجديدة عمل بحثي وإبداعي متكامل، تستفيد من تجارب وخبرات علم الاجتماع وعلم النفس والسياسة والتاريخ والأنثروبولوجيا، تمزجها باحتراف وتقدم منتجا إبداعيا متكاملا. فبينما نحن ندخل مرحلة ما بعد الحداثة روائيا على الأقل، بمعنى تجاوز الحداثة المرتبكة محليا والذهاب إلى نموذج روائي يفجر الرواية الكلاسيكية ويعيد بناءها، مستفيدا من خبرات متراكمة بدءا من أحمد فارس الشدياق، مرورا بغسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، وصولا إلى تجربة أسامة العيسة وغيرهم عبر تاريخ الرواية الطويل، فإن النموذج الجديد من الروائيين الذين ينتمي إليهم لا يؤمن بحسن النوايا الروائية.
يرى الروائي الفلسطيني أن التاريخ هو المادة الغامقة التي إما أن نتعلم منها وإما أن نغرق فيها إلى الأبد، وهو الحكاية التي لم تُرْوَ من جميع جوانبها بعد، فمئات الألوف من الناس لا يعرفون شيئا عن فلسطين التي تقع قبل النكبة أو وعد بلفور وسقوط الدولة العثمانية على أقصى تقدير. من ثم فإنه يبحث في التاريخ عمن ضاعوا في صندوق وضاح اليمن، وفي بئر يوسف، عمن تجاهلتهم الأقلام المادحة والكتابات المدبجة الساعية إلى الجوائز والعطايا.
ويتابع شماسنة “ما زلت أرى أن التاريخ المحلي والعربي مقدم برواية أحادية الأبعاد، تاريخ يروى بشكل خطي، وباتجاه واحد، وما زلت مؤمنا أننا نحتاج رؤية الوقائع من زوايا متعددة، لذلك أقرأ اليوميات، والمذكرات وأدب الرحلات، أنقب في الشهادات والمراسلات. لكني رغم ذلك لا أكتب رواية تاريخية، ولست مؤرخا، إنما أتوكأ أحيانا على التاريخ”.
الشعر والسرد
يعتقد شماسنة أن هاجسه الشعري يختلف عن نظيره الروائي؛ ففي الشعر يسعى إلى تقديم ذاته “أناه” الشاعرة متميزة عن أي شاعر وعن أي شعر، هذا التميز يقتضي أن يكون الشعر جميلا بكل عتباته وأركانه ومقوماته، بدءا من عنوان المجموعة ومرورا بعنوان القصيدة وحتى نهاية آخر رعشة شعرية في العمل، وللجمال شروطه، من الجديد إلى المدهش، إلى المؤثر، إلى المشاكس أو المشاغب، أما في الرواية فإنه مشبع بأسئلة “لماذا حدث ذلك؟ كيف حدث ذلك؟ ماذا لو حدث ذلك؟ ما الذي حدث ولم نعرف عنه؟”.
لا ينفي شماسنة حضور ذاته بشكل ما في ما يكتب، يوضح “في نظرية الأنا المتعددة تتعدد الأنا من أنا جبانة وشجاعة وخائفة وغاضبة وراضية وممتنة وخبيثة، تؤثر البيئة في ذلك كله، وتحفز أو تضمر إحداها أو عددا منها. لا أنكر أن كل شخصية من شخصيات أعمالي واحد من مسرح الأنا الكامن في عقلي الباطن، لا أسمح لأي منها بالتغلب والطغيان، تلهمني في بناء الشخصيات، وبمزيد من الممارسة والتجريب تعلمت كيف أستفيد من أنوات الآخرين المتعددة لتلهمني في اختراع أنوات الشخصيات، فبدلا من تكوين شخصية بأنا واحدة، أصبحت أنجز شخصياتي بـ’أنوات’ متعددة أقرب إلى الواقعية. التجربة الذاتية لي ككاتب أو شاعر بالإضافة إلى عملي في مجال تمريض العناية المكثفة، ودراساتي العليا في إدارة الموارد البشرية وإدارة المشاريع، كل ذلك أثرى تجربتي الذاتية مما فتح عيني على الكثير من التفاصيل، التي تثري تجربتي وبالتالي أعمالي”.
يجمع شماسنة ما بين كتابة الشعر والرواية، ينوه بأن الشعر محرض على الجمال والإتقان، مدرب شديد على الاحتراف والانضباط والترتيب. ويشبّه إتقان الشعر بركوب الخيل، وبالتالي امتلاك الجملة والسيطرة على النص مثل امتلاك الفرس الجامح، الشعر مراوغ مثل الرواية، والأنا الشاعرة تختلف تماما عن الأنا الساردة. السرد يتبع فن الحكي أو هو وليده الشرعي، والقدرة على الحكي تعني الإسهاب، بينما الشعر الذي يكتبه، والشعر الحديث إجمالا يعنى بالإيجاز، تستفيد الرواية الجديدة من تجربة الشاعر وسيطرته على النص وتطويعه للمفردات وتوظيفها، لكن هذه التجربة مغامرة وقد تكون فخا، فقارئ الرواية وإن كان يبحث عن جمال المفردات والتعابير، إلا أنه يمل سريعا إن لم يجد حكاية وحدثا وحبكة تفاجئه.
ويعتقد الكاتب الفلسطيني أن للكتابة دور التنوير الإبداعي، فهي أشبه بمشعل مستكشف الكهوف العميقة، تنير وتكشف عن الخفافيش والسباع والطرق الملتوية، تحذرنا من الانزلاق، وتدلنا على المنافذ والمداخل والمخارج، تكشف لنا عما يخفى، وتنقب عما ضاع أو ضل، وكلما سطعت وأصبحت أكثر جرأة وتوهجا تغلغلت في المناطق العميقة والموبوءة والمعتمة وأصبحت أكثر إزعاجا للطبقات الراكدة، والشرائح الراقدة منذ عقود أو قرون.