استراتيجية الانتقالي في إدارة صراع المحاور التأسيس لما بعد حرب اليمن
إن نظرة البعض إلى الحرب الدائرة في اليمن بمعزل عمّا يجري في المنطقة قاصرة بثوابت الأرض ومفرزات التاريخ ، إذ أن كل الوقائع تؤكد أن هذه الحرب هي جزء أصيل من سيناريو إعادة تقسيم المنطقة وفق مشروع الشرق الأوسط الجديد. ويمكن قياس ذلك وإدراكه أيضا من خلال استعراض أطراف الصراع في اليمن المشاركة في الحرب بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر معززة بفرضية أقلمة وتدويل الحرب في اليمن.
ساحة صراع بديلة
لا شك في أن الحروب والنزاعات الداخلية التي تغذيها أطراف إقليمية ودولية ، هي في القياس حروب طويلة، وذلك لأن القوى المحلية التي تلعب فيها دور " المشارك " تفقد بعضها استقلالية اتخاذها للقرار وتصبح تالياً رهينة تحقيق مصالح متشابكة بالغة التعقيد - الحوثيون والإخوان أنموذجا - وتضحى الحرب بالنسبة لآخرين مصدراً للرزق ومهنة مدرّة مستدامة لا يرجون لها انقطاعاً .
وبموازاة ذلك يحاول البعض أيضا القول :" بأن المجلس الانتقالي الجنوبي -على سبيل المثال - بات أداة لتنفيذ أجندة دولة الإمارات العربية المتحدة ولم يعد بمقدور قيادته اتخاذ قراراتها بعيداً عن أبو ظبي" ، وهذه المقالة تجافي الحقيقة كليّا من وجهين:
الأول : أن الجهات التي ما فتئت تردد هذه المقولات ليلاً نهاراً أقلقها كثيراً وجود ظهير قوي للجنوب وشريك استراتيجي عملت صنعاء بقواها السياسية المختلفة طوال الـ20 سنة الماضية على تغييبه وحجبه .
لذلك فقد اجتمعت القوى الراديكالية التي تتخذ من العنف وسيلةً لتحقيق أهدافها بقيادة حزب الإصلاح و بما تملكه من إمكانات كبيرة إلى تفخيخ هذه العلاقة من خلال نشر الإشاعات والمزيد منها ، باعتبار أن صراعها المفتوح مع أبو ظبي التي أجهضت حلمها بالسيطرة والهيمنة على المنطقة عبر مشروع الربيع العربي ؛متسلسل ممتد من ميدان رابعة وسط مدينة القاهرة مروراً بمشاهد جزّ الرقاب في سوريّا والعراق وصولاً إلى قصر معاشيق الرابض في قلب فوهة بركان مدينة كريتر .
ومع الخسارة العسكرية التي ألحقها المجلس الانتقالي - بدعم من التحالف العربي - بمشروعها في عدن نهاية يناير كانون الثاني 2018م ، والمتمثل بتدمير ترسانتها العسكرية التي عملت على تكديسها في عدن طوال عامي الحرب الأخيرين بينها 83 صاروخ لو ، ومثلها محمولة على الكتف مضادة للطائرات ، بالإضافة إلى كمية كبيرة من الأسلحة والمواد المتفجّرة بينها مادة الـ( سي فور) ، وجدت تلك القوى التي ترتدي عمامة الشرعية نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما ؛ إما إعادة تفعيل ضبط المصنع باعتماد نموذج سيناء ، ووقائع التفجيرات والمفخخات والهجمات التي طالت مقاراً لأمن عدن ومطابخ الحزام إلا بعضٌ مما يملكه القوم وهنالك المزيد ؛ كل ذلك يطبّق مصحوباَ بزعيق وعويل وضجيج ونفث أكبر كمّ من الغبار الحاجب للرؤية عن الجميع ليمكنها وسطه ستر سوءاتها ونفض ما علق بردائها من دخن ودماء ، والتشويش ما أمكن عن سماع أصوات الآخرين .
كثير من الناس يعتقدون خطأً أن إسقاط الحكومة كان هدفاً أوّلاً لمواجهات يناير بعدن ، والصحيح أن تجريد تلك القوى من إمكانياتها الحربية هو الهدف الرئيس .
الإصلاح بعمامة الشرعية :
فالرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، يجمع تحت "شرعيته" التي رفعتها دول "التحالف العربي" أعلى أسنّة رمح "عاصفة الحزم"، قوى محلية متصادمة الأهداف والتوجهات ومتضادة النوايا حد التناحر؛ فتحت سقف قصر معاشيق ، إسلاميون من حزب "الإصلاح" (إخوان اليمن) علمانيون وسلفيون أصوليون ومتشددون مناصرون لتنظيم "القاعدة"، بالإضافة إلى أعضاء في حزب "المؤتمر" وعسكريون ومتحزبون ، هذا الخليط المتنافر - على سبيل المثال - لا تجمعه سوى حلقة المصلحة سواء كانت سياسية أم شخصيّة أم حزبيّة أم وطنيّة، وجميع تلك القوى والشخصيات مرتبطة بشكل علني بدول وتنظيمات متضادة الأهداف والتوجهات غالبها خارج إطار "التحالف العربي".
حالة اللا انسجام هذه التي تجلّت بوضوح على شكل إخفاقات رافقت عمل حكومة بن دغر في إدارة المناطق "المحرّرة"، وفشلها في توفير الحد الأدنى لها من الخدمات، دليل آخر على أن الاستقرار في اليمن شمالاً وجنوباً سيكون عسيراً وصعباً على المدى القريب والمتوسّط، ناهيك عما يؤشر إليه ذلك من تغذية تلك الاختلافات لاستمرار الحرب التي لن تعدم وقودها فوق رماد عدن وتحتها ، فالتفجيرات التي تطال في عدن جهات سياسية وعسكرية موالية للمجلس الانتقالي تؤشر إلى ذلك بوضوح .
ولأن تلك القوى السياسية المجموعة في رباط الشرعية بمرجعياتها الراديكالية الإسلاموية سرعان ما تفقد صبرها مع أول ضربة تتلقاها ؛ فتلجأ طرديّا إلى العنف المضاد ، وقد رأينا ذلك حاضراً في ليبيا ثم سوريا وتالياً صنعاء ، فتركيبتها التنظيمية لا يمكنها البتّة التماهي والتمازج مع مفاهيم السلمية والصبر وسياسية النَفَس الطويل ، وإن هي فعلت ذلك كانت أقرب إلى التشظي والتنازع البيني السريع ؛ ولعلمها يقيناً أن النضال السلمي يحتاج إلى مخزون هائل وطاقة جبارة روافدهما إما نوازع عقدية أو دوافع وطنية ، وهذان التطبيقان لم يعد لهما وجود في دواخل تنظيمات الإسلام السياسي ؛ أزاحهما وحلّ مكانهما لهاثها المرثوني خلف صولجان الحكم وكرسي الرئاسة .
استعادة الثقة :
حرصت دول التحالف العربي منذ بدء حربها في اليمن- والتي ولجت عامها الرابع - على إظهار الحد الأدنى من تماسك جبهتها الداخلية المشكّلة من خليط غير متجانس جمعته معاً إملاءات اللحظة وضرورة الظرف ومكانية المعركة ، وكوّنت تلك القوى السياسية والدينية المتباينة ، بمرجعياتها السياسية وتوجهاتها الأيديولوجية المتناقضة ، ما عرف لاحقا بـ(الحكومة الشرعيّة ) ؛ تلك القوى المحليّة المتعاكسة الأهداف والمشاريع والتوجهات وجدت نفسها مرتين بين خيارين لا ثالث لهما ، إما صعود قطار التحالف دون شروط ، أو البقاء مكانها معزولة بانتظار مآلات ومصير معركة لها في كل تفاصيلها ناقة وجمل وليس لها في حسابات ومعادلات الربح والخسارة تالياً موقعاً ونصيباً
(الانتقالي) .. شريك التحالف الاستراتيجي
إن قراءة الحاضر في قلب مشهد ملفات المنطقة المتفجّرة في ظل تواتر أحداثها المتسارعة وتشابك المصالح وتنافرها وتبدّل التحالفات والولاءات في آن واحد ، أمر في غاية الصعوبة ، فالثابت سياسياً بات لا يخضع بالمطلق لمنطقية حسابات قد تبدو للوهلة الأولى تحولات تحتاج إلى معجزات لتحدث ؛ فمن كان يتصور أن صنعاء التي اختطت تاريخها الحديث في عهد صالح قد تخذله في لحظة فارقة من الزمن ، فلا يجد في شوارعها ومنازلها ملجأً ومأوى يحميه لساعات حين احتاج إليها ليعيش؟! .
ومن كان سيصدّق بأن الجنوبيين الذين جردهم صالح حتى من سكاكين المطابخ - حد قول المبعوث الأول إلى اليمن السيد " جمال بنعمر" - هم من سيصنعون الفرق في معركة اليمن؟ ومن كان ليتنبأ بأن قطر التي كانت حاضرة الجبل في نهم ومأرب اليمنية ضمن دول التحالف العربي لحولين كاملين سرعان ما تُفطِم و تقلب للتّحالف ظهر المجن مفعّلة تحالفاتها القديمة الجديدة علناً آخذة بكلّ ما أوتيت من قوّة إلى ضرب محيطها الخليجي مع إدراكها الجازم بأنها بذلك ربّما تقطع جذع الشجرة الذي تقف عليه؟!- حد محللين سعوديين .
ومع تنامي الخطر الذي بدأت تشكله الكيانات السياسية والحزبية اليمنية المؤيدة للتحالف العربي ، كان لابد للتحالف من إيجاد شريك حقيقي فاعل قادر على تغيير المعادلة على الأرض لصالحه ، وكان لابد أيضا من اختبار إمكانيات هذا الشريك وقدراته ووزنه جماهيريّا وسياسيا وعسكريّاً .
ومما خلص إليه التحالف العربي من حربه الطويلة في اليمن إدراكه الجازم أن الحوثيين ما كانوا ليتمكنوا من السيطرة على كافة محافظات الشمال ذات الغالبية السكانية لو لم يكن لديهم حاضنةً شعبيةً قويةً وتأييداً يستند إلى قوى دينية وقبلية مؤثرة بالإضافة إلى عوامل أخرى موضوعية ومما أدركه التحالف أيضا ما لهذه العوامل من إمكانية في رجحان المعادلة العسكرية على الأرض في اليمن ، ولذلك فقد وجد في المجلس الانتقالي الجنوبي شريك استراتيجي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه مستقبلا مقابل كيانات دعمها التحالف ووفر لها كل سبل النجاح ووسائل الفوز والضفر ووجدها بعد كل ذلك ، وقد انتصرت لإعدائه وذهبت تسعى إلى إفشاله في تصرف غريب لا يمت لمعطيات السياسة وأبجديات وقائع الأرض بصلة ؛ وبدلاً من أن تستثمر ذلك التأييد لصالحها والتحالف عادت لممارسة ما جبلت عليه طوال سنوات عشرتها مع صالح وبذات اساليبها القديمة .
ومع أنها تردد ليلاً نهاراً تمسكها بشرعية هادي لكنها عملياً لا تريد من هادي إلا أن يعمل معها بمنصب رئيس .