في الذكرى الثالثة لاستشهاده..

السيف العفيف..أسطورة مجد خالدة

جمعتني بالسيف العفيف، صاحب القلب النظيف(سيف سُكَّره)، رحمة الله تغشاه، علاقة حميمة منذ مطلع الثمانينات خلال عملنا في وزارة الدفاع وقربنا بحكم طبيعة عملنا من قيادة وزارة الدفاع. فقد كان الشهيد اللواء سيف مديراً لمكتب وزير الدفاع في عهد الوزراء الثلاثة: علي عنتر وصالح مصلح وصالح عبيد. وكنت أعمل خلال تلك الفترة أيضاً في الإعلام العسكري، في تقديم برنامج (جيش الشعب) الأسبوعي في إذاعة وتلفزيون عدن فضلا عن تغطياتي للشئون العسكرية في الصحف المحلية، وبحكم عملنا كنا نلتقي ونترافق في كثير من المناسبات في مرافقة وزير الدفاع الميدانية إلى مختلف محافظات الجمهورية حيث ترابط وحدات قواتنا المسلحة، من باب المندب إلى المهرة وسقطرى وميون.

كان الشهيد أكثر التصاقاً وقُرباً بالشهيد علي عنتر، وعلمت أن تلك العلاقة النضالية الحميمة تعود بينهما منذ وقت مبكر، حينما استقطبه القائد الفدائي علي عنتر ضمن كوكبة مقاتلي جيش التحرير للجبهة القومية عام 1965م وهو في ريعان شبابه.

وترسخت هذه العلاقة التلازمية بينهما في ميادين الكفاح ضد الاستعمار البريطاني حيث كان الشاب سيف علي صالح العفيف ضمن أولئك الشباب الذين جرى تدريبهم وإعدادهم عسكرياً وأبلوا بلاءً حسناً في الأعمال القتالية ضد الاستعمار، وكان في الوقت ذاته مرافقاً للقائد علي عنتر وكاتبه الخاص في المراسلات السرية مع رفاق الكفاح المسلح، حتى لاح فجر الاستقلال الوطني، فالتحق ضمن الحرس الشعبي بعد الاستقلال الوطني. وسافر للدراسة العسكرية في الاتحاد السوفيتي وكان ضمن المتفوقين، وعند تعيين علي أحمد ناصر عنتر وزيراً للدفاع، اختاره مديراً لمكتبه، فكان ببشاشته وحُسن أخلاقة خير من شغل هذا المنصب الذي مثَّل حلقة الصلة بين الوزير والمراجعين سواء من قادة القوات المسلحة أو غيرهم من عسكريين ومدنيين، ولعل لقبه (سُكَّره) الذي طغى على لقب أسرته (العفيف) يرجع لطلاوة وحلاوة كلامه وحُسن تعامله مع الجميع وطِيبُ نَفسه ومرحها.

ولخبرته الإدارية والقيادة أبقاه صالح مصلح قاسم مديراً لمكتبه عندما خلف علي عنتر في منصب وزير الدفاع وحظي بإعجاب وتقدير الوزير صالح مصلح الذي كان يصطحبه في معظم زيارته الخارجية للدول الصديقة والشقيقة. وظلت مكانته تلك حينما تسنم صالح عبيد أحمد منصب وزير الدفاع، ولعل (سُكَّره) مثَّل بذلك حالة استثنائية في منصبه الهام كمدير لمكتب وزير الدفاع الذي ظل لصيقاً به خلال تناوب ثلاثة وزراء على المنصب، وهذا يدل على قدراته الإدارية والتنظيمية، وحُسن تعامله مع كل زوار المكتب والمراجعين ممن يقابلهم ببشاشته وابتسامته المعهودتين.

غادرت للدراسة في موسكو أواخر عام 1986م، وجرت مياه كثيرة خلال سنوات دراستي وصولاً إلى الوحدة الضيزى وما أعقبها من انقلاب عليها من قبل نظام صنعاء، التي قضت على الشريك الجنوبي في حرب صيف 1994م. وكان الشهيد سيف سُكَّره ممن خاض غمار المواجهة الشرسة مع قوات الاحتلال، و التي حولت الوحدة – بعد تلك الحرب- إلى احتلال وضم وحيف، وكان ضمن من تعرضوا للإقصاء والتهميش والتقاعد القسري. لكنه بنفسه الأبية لم يستسلم للظلم والاحتلال مثله مثل كل الجنوبيين الشرفاء الذين رفضوا الرضوخ لممارسات الاحتلال وتحول رفضهم إلى غضب وثورة عارمة، لا سيما عند انطلاقة الثورة السلمية التي أقضت مضاجع الاحتلال وقواته في كل أرجاء الجنوب، وكانت الضالع قلعة الصمود والاستبسال في مواجهة قوات الاحتلال ورموزه العسكرية السيئة (ضبعان وأبو العوجاء) ممن أمعنوا في قصف القرى والتجمعات السكانية وقتل المتظاهرين.

لكن الضالع ظلت عصية ومقاومة، وثأرت لنفسها وللجنوب حينما مرَّغت أنوف الغزاة الحوثيين والعفاشيين في التراب في غزوهم للجنوب عام 2015م، وكانت الضالع كما هو عهدها بوابة النصر الذي صنعه أبطالها بصمودهم وتضحياتهم، وكان الشهيد اللواء سيف ضمن القادة الشجعان الذين تصدوا للعدوان، وقاد اللواء الأول مقاومة الذي تشكل من رجال المقاومة الجنوبية في الضالع وبقي قائداً له حتى لحظة استشهاده في الصفوف الأولى للمواجهات مع جحافل الغزاة.


أتذكر اللقاء بالشهيد سيف، رحمه الله، بعد الانتصار الحاسم عام 2015م عند زيارة وفد الهيئة الأكاديمية للضالع، وكيف تنقل معنا كمرشد ودليل في تلك المواقع التي كانت مراكز صد ودفاع خلال أيام الجمر والنار ومعمعة الصدام والمواجهات الشرسة مع الغزاة الحوثيين وقوات نظام عفاش.

بدأنا رحلتنا بعد أن استقبلنا المسئولون في الضالع وعلى رأسهم محافظها أنذاك الرجل المتواضع والإنسان الرائع الأستاذ فضل الجعدي بالتحرك مباشرة إلى قمة (دار الحيد) التي تمثل قلب الضالع النابض بعبق التاريخ وينتصب فيها دار الأمير وبجانبه وحواليه بيوت الحي القديم من المدينة، وقد نال الغزاة من هذه الدار، لرمزيتها التاريخية، وحولوها إلى أنقاض، ومن هذا الموقع المرتفع انبسطت أمامنا بانوراما عامة لمدينة الضالع ومحيطها العمراني من كل اتجاه.

بدأ المحافظ بالحديث عن أسطورة النصر الذي حققته الضالع بوحدة وتظافر ومقاومة جميع أبنائها، ثم ترك الحديث للقائد العسكري الميداني سيف علي صالح (سُكَّره) ليشرح لنا بالتفصيل أبرز الأحداث ويعرفنا على أبرز المواقع التي دارت فيها رحى المواجهات الشرسة مع جحافل الغزاة، والتي تظهر أمام ناظرينا بوضوح من هذا الموقع المرتفع، بما في ذلك معسكرات الجيش والأمن السياسي التي تحتل مساحات واسعة في التلال المطلة على المدينة والقرى المحيطة، مثل (الخزان) و(المظلوم) و(السنترال) وغير ذلك. وروى لنا تفاصيل المقاومة الباسلة في كل أنحاء الضالع وكيف حاربت الأرض مع أهلها وتحولت إلى براكين غضب وحُمم من نار تحرق أحلام الغزاة وترد كيدهم في نحورهم، ورغم فارق القوة من عدة وعتاد بين المقاومة وبين جحافل الغزاة، إلاَّ أن قوة العزم والإيمان بالنصر لدى المقاومين الأبطال كانت من أهم عوامل انتصارهم، فهم أهل حق ويقاتلون دفاعاً عن أرضهم وعرضهم وكرامتهم وحريتهم، وهكذا حزمت الضالع أمرها وقامت قومة رجل واحد في وجه الغزاة وقاتلت ببطولة واستبسال وكُتب لها النصر.

كنا مشدودين بكل جوارحنا إلى حديث القائد الميداني المقاوم سيف سُكَّره وهو يسترجع البطولات والمآثر ويعدد أسماء مواقع وقرى وبلدات الضالع التي ذاع صيتها أثناء المواجهات والبطولات الخارقة لمقاتليها الأبطال:
الجليلة- العرشي- القشاع- السوداء- حَيَاز- لكمة الحجفر- الجرباء- الوَبح- لكمة صلاح – الشوتري- المنادي- خَوبر- مرفد- لكمة عراش- الحجوف- القبة- الشعراء- زعرة.. الخ.

عدَّد لنا أيضاً اسماء كتائب المقاومة الجنوبية في الضالع التي حملت أسماء أولئك الأبطال الذين استشهدوا في غمار معارك المواجهات ضد الغزاة، مثل كتائب الشهيد أياد الخطيب التابعة للمقاومة الشعبية الجنوبية بقيادة بليغ الضالعي، كتائب الشهيد فارس الضالعي بقيادة حمادة ابومحمد، كتائب الشهيد علي عبداللاه بقيادة عمار أبوعلي وغيرها.

وكم كان الحديث مشوقاً وممتعا حينما يصدر عن قائد اللواء الأول مقاومة، ممن أسهم في صنع النصر مع بقية رفاقه قادة المقاومة وعلى رأسهم حينها القائد عيدروس الزبيدي، شلال علي شائع، صلاح الشنفرة وغيرهم من القادة والأبطال..
بعد تحقيق الانتصار لم يَسْعَ سيف سُكَّره إلى البحث عن منصب أو مصالح شخصية مستغلاً إرثه النضالي ومقاومته البطولية، بل ظل على ثباته مرابطاً في خطوط النار على رأس قيادة اللواء الأول مقاومة في الخطوط الأمامية ضد المليشيات الحوثية، وتمكن رغم الإمكانيات المحدودة أن يجعل من اللواء قوة ضاربة بمعنويات أفراده العالية ممن يستمدون العزم والثبات من قائدهم الفذ الذي كان يتقدمهم في الخطوط الأمامية، فقدم بذلك صورة استثنائية للقائد المقدام والجسور الذي فضل أن يضحى بنفسه من أجل فك الحصار عن أفراده المحاصرين، وتلك لعمري قمة التضحية والفداء، وملحمة أسطورية تخلد بأحرف من نور في سفر تاريخنا المعاصر لتلهم الأجيال معنى حب الوطن والتضحية في سبيل عزته وانتصاره.
نم قرير العين أيها السيف العفيف.. وتظل بمناقبك ومآثرك حياً في سفر الخلود..