تحليل: الشرق الأوسط والمتغيرات الدولية

الثلاثاء 30 أغسطس 2022 13:19:00
تحليل: الشرق الأوسط والمتغيرات الدولية

شكل الشرق الأوسط منذ زمن بعيد منطقة محورية في العلاقة بين الشرق والغرب لأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية وجغرافية، ولهذا تجده دائماً في قلب اهتمام القوى المختلفة، مما جعله الأكثر تأثراً بأي تطورات عالمية أو إقليمية أو دولية؛ إلا أن سلسلة الأحداث والقضايا التي فرضت، في الآونة الأخيرة، نفسها على الشرق الأوسط استدعت مزيداً من التحولات الاستراتيجية والتكتيكية في إدراك الشرق الأوسط ذاته للفاعلين الدوليين، وإدراك هؤلاء الفاعلين لأهمية هذه المنطقة وسعيهم إلى تعزيز النفوذ والاستئثار بموطئ قدم فيها يمكنهم من الإسهام في اللعبة الدولية بين مختلف أطراف النظام الدولي المعقد.

الانسحاب الأمريكي ومستقبل الشرق الأوسط الجديد:

خلال عقود الثلاثة الماضية تجلى الوجود الأمريكي المباشر في الشرق الأوسط – مع ما يصاحبه من حضور عسكري ودبلوماسي واقتصادي – في مظاهر عدة بداية من حرب تحرير الكويت عام 1990/1991، مروراً بغزو أفغانستان ، ثم احتلال العراق عام 2003، وانتهاءً بالحرب على الإرهاب في عمومه خاصة في العراق، وسوريا، والصومال، وبعض الدول الأفريقية.

مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي، بدأت الولايات المتحدة تقليل وجودها في المنطقة من خلال التخفيف من الحضور العسكري الأمريكي في العراق منذ عام 2011 بهدف الانسحاب الكامل لاحقاً، وتلا ذلك انسحاب كامل من أفغانستان، بينما يقتصر الحضور العسكري للقوات الأمريكية في سوريا على أعداد محدودة من الجنود لا يتجاوز عددهم 900 عنصر عسكري؛ وهو أمر قد يفسره البعض على أنه تراجع في أهمية منطقة الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، لكن الولايات المتحدة ما تزال ترى في انتشار الأسلحة النووية خطراً يهدد مصالحها، ومن ثم فإنه بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران في عهد الرئيس أوباما عام 2015 انسحبت منها في عهد الرئيس ترامب عام 2018، وما أن تولى الرئيس الحالي جو بايدن السلطة حتى أعاد الحديث مرة أخرى على ضرورة العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها وهو ما تجري الآن بشأنه المفاوضات غير المباشرة في فيينا، الأمر الذي يعكس اهتماماً أمريكياً مختلفاً هذه المرة بالمنطقة وما يجرى فيها من تطورات، ولكن هذا لا يتوقع منه أن يوقف توجه الولايات المتحدة إلى خفض وجودها العسكري في المنطقة أملاً في فرض واقع جديد لا يقتصر على القوة العسكرية فقط ولكن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط يبقى مرتبطاً بعوامل إقليمه ودولية تفرض نفسها على الإدارة الأمريكية من أهمها:

1- توغل الصين في الشرق الأوسط.

2- الاتفاقات الإبراهيمية وتغيير نمط التحالفات في المنطقة التي وقعت بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة ثانية إلى أن المنطقة بدأت الاستعداد لمرحلة ما يمكن تسميته – ما بعد الوجود الأمريكي، فهذه الاتفاقيات قد تسهم في تخفيف الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط، وربما التحرر من فكرة الوصي الأمني على دول المنطقة.

3- مع ذلك يبقى العامل المتمثل في تهديد إيران وتدخلاته في دول المنطقة أبرز العوامل التي قد تدعوا الولايات المتحدة لإبقاء سياساتها الأمنية الإقليمية لما في هذا من صد للتهديدات المباشرة للمصالح الأمريكية عموماً.

التحديث الاستراتيجي في رؤية بايدن وأثره على منطقة الشرق الأوسط:

اعتبر الانسحاب الأمريكي في المنطقة جزءاً من استراتيجية الرئيس بايدن التي تعمل داخلياً على نوع من “التحديث الاستراتيجي” الداخلي الذي يتيح للولايات المتحدة أولاً إعادة بناء نفسها من خلال إعادة توجيه مواردها نحو تحديث البنية الأساسية. بالإضافة إلى إعادة تموضعها الاستراتيجي وإعادته إلى منابعه الأولى مع الدول التي وقعت معاهدات أمنية شاملة، مثل تلك المعاهدات القائمة مع دول حلف الأطلسي، واليابان، وأستراليا، وكوريا الجنوبية.

أما في الشرق الأوسط فإن تقليص الولايات المتحدة لحضورها في المنطقة قد يدفعها إلى الاعتماد أكثر على القوى الإقليمية الحليفة لها وفي مقدمتها إسرائيل، بالإضافة إلى السعودية التي ستظل لها أهميتها الخاصة بحكم موقعها في العالم الإسلامي أو دورها في اقتصادات الطاقة في العالم.

ملامح الشرق الأوسط الجديد بعد الخروج الأمريكي

من الصعب قياس مدى التأثير الذي سيخلفه الخروج الأمريكي من المنطقة، واستناداً إلى أن الخروج سيعقبه فراغ، وأن الفراغ سيستدعي قوى دولية أخرى، مثل الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا، لكي تملأه بالنفوذ والتأثير، أو قوى إقليمية ترى في نفسها القدرة على الهيمنة، لذا فإن الوضع قد يتحرك في اتجاهات أخرى كما يلي:

القوى الكبرى:

روسيا: ليس متوقعاً أن تشكل روسيا بديلاً جاهزاً ، إذ إن لديها ما يكفي من الأعباء التي أثقلت كاهلها نتيجة انشغالها في اوكرانيا وسورية.
الصين: تعتبر من الدول التي لديها طريقة مختلفة لإدارة وجودها الدولي؛ فهي لم تتورط في أي من أزمات الشرق الأوسط المزمنة، وهي حريصة في تحركاتها الدبلوماسية وما زالت تعتمد على المقاربات الاقتصادية، مثل مشاركتها في بناء ميناء حيفا الإسرائيلي أو العاصمة الإدارية في مصر أو الاتفاقيات النفطية والاستثمارية مع إيران.

القوى الإقليمية:

بدأت بعض أطراف المنطقة، في حالة من التهدئة والمصالحة، وضع أسس لنظام إقليمي بهدف تجنب صراعات كبرى في المنطقة، وقد بدأت أولى ملامحه فيما أُطلق عليه “بيان العلا” الصادر عن قمة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في يناير 2021، والذي شكل الأساس لعودة العلاقات بين دول التحالف الرباعي (السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين، وقطر)؛ وهذا ما تجدد في قمة بغداد الخاصة بأمن العراق من حيث إجراء مقابلات وفتح مباحثات بين السعودية وإيران، وبين مصر وتركيا، وبين الإمارات وكل من قطر وتركيا.

كما كان اتجاه السلام مع إسرائيل والذي ظهر من خلال اتجاهين كلاهما له طبيعة اقتصادية، فهناك اتفاق منتدى الغاز لشرق البحر المتوسط الذي يضم سبع دول من بينها فلسطين وإسرائيل والأردن ومصر، واتفاقيات إبراهيم للسلام بين الإمارات والبحرين من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى.

كل هذه الاتجاهات تشير إلى أن الشرق الأوسط يرتب أو يستعد بدوره لمرحلة ما بعد الخروج الأمريكي.وعلى كل حال، فإن ملامح هذه المرحلة الجديدة من النظام الدولي ما تزال في مراحلها الأولى، ولكن يُتوقع أن تجرى في ظل تراجع واضح للحضور الأمريكي في المنطقة.

الخلاصة:

يبدو أن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط هو انسحاب جزئي تكتيكي يهدف إلى تحويل جزء من القدرات الأمريكية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي بهدف مواجهة الصين، وهو ما دلت عليه اتفاقية أوكوس مع أستراليا وبريطانيا وما يجري الحديث عنه عن إمكانية إنشاء ناتو آسيوي لمواجهة نفوذ بكين في بحر الصين الجنوبي ومنطقة الأندوباسيفيك. ولهذا ليس من المتوقع انسحاب أمريكيا كلياً حيث ستحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بجزء من قواتها ومستشاريها في المنطقة لاسيما القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي بالإضافة إلى ذلك ستعتمد على حلفاء إقليميين من أجل تسوية عدد من الملفات في الشرق الأوسط ومن أهمهم بريطانيا وفرنسا بالإضافة ربما إلى إسرائيل.
ويبدو بالمقابل أن دول المنطقة ومع المؤشرات على انسحاب أمريكي جزئي، بدأت بالاستعداد لمرحلة ما بعد الانسحاب بينما بدأت خريطة العلاقات السياسية والتحالفات الإقليمية والسياسة الخارجية في التغيَر وبدأت القوى المتنافسة والمتصارعة في البحث عن سبل لتخفيف حدة التوتر القائمة والعملي على تطبيع العلاقات كالتحركات التي تجري بين السعودية وإيران ومصر وتركيا ودولة الإمارات.

في سياق كل هذا، ستظهر فواعل دولية جديدة في الشرق الأوسط منها ما هو موجود بالفعل مثل روسيا والصين اللتان تستهدفان ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي وتوسيع رقعة نفوذيهما على حساب أمريكا، وخلق محور جديد للتحدي التكتيكي دون الوصول إلى مرحلة الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وهناك فواعل جديدة ستسعى من خلال الشراكات الاقتصادية إلى الحضور في المنطقة أيضاً، وذلك بإيعاز من أمريكا أبرزها بريطانيا وفرنسا، وهناك فواعل سيقتصر وجودها على ملفات اهتمام مشترك محددة من أهمها الملف الليبي وشرق المتوسط وأهمها إيطاليا وألمانيا.

أما فيما يتعلق بالجماعات الإرهابية والمتطرفة في الشرق الأوسط فمن المتوقع أن تجد نفسها أمام خيارين إما الاندماج ونقل بؤر الصراع من الشرق الأوسط إلى عدد من المناطق الأخرى كالقرن الأفريقي وأفغانستان وإما التفكك نظراً إلى التضييق الأمني والتعاون الاستخباراتي والمعلوماتي بين دول المنطقة لمكافحة هذه التنظيمات.

العميد ركن / ثابت حسين صالح

*باحث ومحلل سياسي وعسكري في بوابة المشهد العربي

الدراسات والتحليل

الأحد 21 إبريل 2024 13:51:18
السبت 20 إبريل 2024 14:36:00