مؤسسات حوثية سيطرت الأعمال الاغاثية بإشراف الامن القومي
«استغلت الميليشيات الحوثية على مدى السنوات الماضية، المنظمات الإنسانية الدولية، وحولت أغلب المساعدات الغذائية والمعونات الطبية إلى وقود لإطالة أمد الحرب عبر تسخيرها لصالح المجهود الحربي الحوثي وتلميع صورة الجماعة في أوساط السكان».
المقدمة أعلاه، ليست من قبيل الادعاء المجاني، أو الاتهام الكيدي، أو دعاية لانقلابيي اليمن، لكنها خلاصة ماثلة، ذهبت إليها معلومات وتصريحات وقراءات ناشطين وموظفين بمنظمات إغاثية تحدثت معهم «الشرق الأوسط»، مدعومة بما يفسرها ويؤكدها مما تنشره وسائل إعلام الحوثيين، في ظل حرمان تام لملايين اليمنيين من الحصول على حقهم الإنساني في الدعم والمساندة، على صعيد الغذاء والدواء وتوفير الخدمات.
ويؤكد الناشطون أن جهاز مخابرات الميليشيات في صنعاء (الأمن القومي) هو الحاكم الفعلي لعمليات تقديم وتوزيع المساعدات الإنسانية الدولية، كما أنه المخول بمنح التصاريح للمنظمات الدولية العاملة وإقرار خططها، مستشهدين في هذا الباب بإقدام الجماعة على اعتقال عدد من موظفي الإغاثة الذين يحاولون الخروج عن المسار المرسوم لهم من قبل الجماعة.
يقدّر مراقبون استفادة الميليشيات الحوثية خلال السنوات الثلاث الماضية بمئات الملايين من الدولارات من المساعدات الإنسانية المتنوعة، تتصدرها المعونات الغذائية وشحنات الدواء والمستلزمات الطبية، إلى جانب ما تُنجِبُهُ مشاريع استثمارية استحدثتها قيادات الميليشيات وتتقاضى عائداتها من جيب اليمني البسيط، كما هو الحال مع عشرات من مشاريع المياه الممولة دوليا.
يقول موظف في وزارة العدل في صنعاء اكتفى بالترميز لاسمه بـ«م.ن»: «للسنة الرابعة منذ انقلاب الميليشيات الحوثية، لم أرَ منظمة إنسانية تطرق منزلنا، حالنا حال أغلب موظفي الحكومة، رواتبنا مقطوعة، والأعمال مفقودة، ونسمع عن الأخبار المتوالية عن المساعدات، لكن لم نرَ منها شيئا».
ومثله تؤكد المعلمة «أنيسة.ح» أنها وأسرتها لم تتلق يوما ما أي دعم من أي مؤسسة خيرية أو منظمة، على الرغم من حاجاتهم الماسة للمساعدة بعد أن توقفت المرتبات، واستنفدت الأسرة مدخراتها من الأموال والمقتنيات الثمينة من أجل المأكل والمشرب والحاجات الضرورية».
لهذا يتجدد السؤال الذي أصبحت إجابته أقرب إلى الاستحالة: أين يذهب أغلب الدعم الدولي الإنساني؟ قد تكون المنظمات الدولية العاملة في اليمن نجحت في إيصال بعض الدعم إلى الفئات المسحوقة أو كما يقول مسؤولوها: «إلى الفئات الأكثر حاجة»، كما نجحت في احتواء الأوبئة المتفشية بفضل الدعم الضخم الذي تلقته، لكن شواهد كثيرة في المقابل، تشير إلى أن الحصة الأكبر من هذا الدعم، باتت من نصيب الميليشيات وفي خدمتها من دون أدنى شك.
تجدر الإشارة إلى أن خبيرا في الشأن الإنساني أحرج مؤسسة إغاثية بتذكيره إياها أن تقرير الأمم المتحدة في عام 2015، كان عدد المحتاجين للرعاية الصحية 15.2 مليون نسمة.
الدكتور سامر الجطيلي المتحدث باسم مركز الملك سلمان استغرب في تغريدة كتبها في حسابه بموقع التواصل الاجتماعي «تويتر» أن الإحصائية التي نشرتها منظمة الصحة العالمية في حسابها على «تويتر» لليمنيين الذين يحتاجون رعاية صحية صار 16.4 مليون نسمة بعد ثلاثة أعوام بزيادة طفيفة.
يقرأ خبراء الأحجية من زاويتين، الأولى أن الوكالات تصدر تقارير غير دقيقة، لعدم قدرتها أصلا على الوجود في المناطق اليمنية كافة، ومن المضايقات التي تفرضها الميليشيات على موظفي الإغاثة وسيطرتهم على المحلية منها، مما يجعل الأرقام عرضة لأن تكون غير دقيقة.
الزاوية الثانية تتمثل في أن المساعدات الحقيقية والخدمات لا تذهب بالشكل الصحيح، إن ذهبت فإنها تجد صعوبة وتحكما، ويلخصها اتهامات الحكومة اليمنية الشرعية للانقلابيين بسرقة الإغاثة وتوزيعها انتقائيا.
مداواة جرحى الجماعة
في مستشفى «الثورة» وهو أكبر مستشفى حكومي في صنعاء، يجزم مرضى قابلتهم «الشرق الأوسط» بأنهم يدفعون أموالا طائلة نظير الخدمات الصحية التي يحصلون عليها، كما أنهم يوفرون مستلزمات الجراحة كافة، حتى على مستوى المحاليل والمضادات الحيوية والضمادات اللازمة على نفقتهم الشخصية.
يقول «م.ر» وهو مريض في عقده الثالث: «كل الخدمات المقدمة من المستشفى، مدفوعة القيمة على نفقتي الشخصية»، وذلك بعد تعرضه لحادث سير قبل شهر على الطريق التي تقع بين صنعاء وذمار، ويتساءل: لا نعلم أين تذهب المساعدات الصحية الدولية، على الأقل أين هي الضمادات والمهدئات وأدوات الجراحة ومتطلبات الإسعافات الأولية.
موظف بوزارة الصحة في صنعاء، أفاد بأن أغلب المساعدات الدولية على صعيد المستلزمات الطبية، باستثناء أدوية الأوبئة وبعض اللقاحات تذهب إلى مخازن خاصة بالميليشيات الحوثية التي تحرص على تخصيصها لصالح مجهودها الحربي وتقديم الرعاية الطبية لجرحاها في جبهات القتال.
يضيف الموظف الذي طلب عدم الإشارة لاسمه: «في كل الجبهات هناك عيادات طبية متنقلة مزودة بوسائل الإسعافات الأولية كافة، جميع الأدوات المستخدمة فيها هي مما تقدمه المنظمات الدولية، كم أن ما يتم توزيعه على المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية من معونات طبية لا يقدم للمواطنين المرضى، ولكن لجرحى الجماعة المنقولين من الجبهات لتلقي الرعاية الطبية بالمجان».
ويعتقد موظفون في المجال الصحي أن الميليشيات الحوثية تمكنت من استثمار المساعدات الطبية الدولية، لتقليل تكلفة الحرب التي تخوضها، فبدلا من أن تقوم بتمويل نفقات العلاج لجرحاها، تتولى المساعدات الدولية هذه المهمة بالنيابة عنها.
وأفادت مصادر طبية في صنعاء، بأن الميليشيات الحوثية، استولت على أغلب سيارات الإسعاف المقدمة من المنظمات الدولية في مناطق سيطرتها وحولتها إلى عربات خاصة بنقل جرحاها من جبهات القتال، ولا تستطيع المنظمات حتى تأكيد ذلك بشكل رسمي خشية من الأذى أو مزيدا من عرقلة أعمالها التي تقع في مناطق سيطرة الانقلاب.
تسخير المساعدات الغذائية
ضيقت الميليشيات الخناق على جل المنظمات المحلية العاملة في مجال المساعدات الغذائية، وأصدرت تعليمات بحسب حقوقيين تتضمن منع أي نشاط من دون الحصول على إذن مسبق من الجماعة يشمل نطاق تحركها والفئات المستهدفة، وهو ما جعل أغلب المنظمات التطوعية تعزف عن العمل، باستثناء القليل منها.
وكلفت الجماعة - بحسب ما أكده ناشطون - عناصرها في جهاز الأمن القومي بتولي الإشراف على ملف المساعدات الغذائية المقدمة من المنظمات الدولية لضمان السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة مجهودها الحربي وأتباعها الطائفيين، وأسر مقاتليها في الجبهات مع تسخير جزء منها لصالح الداعية لتلميع صورة الجماعة في أوساط السكان والفئات الفقيرة، ولاستقطاب المجندين، فضلا عن قيامها ببيع كميات أخرى في السوق لصالح قيادات الجماعة.
ولكي تضمن الجماعة تنفيذ مساعيها على النحو المطلوب ضيقت الخناق على عمل المنظمات الدولية، وأجبرتها بحسب - مصادر إغاثية - على توظيف عناصر الجماعة في مفاصل المنظمات، تمهيدا للخطوة التالية وهي الاستيلاء على أكبر كمية من الدعم المقدم عبر المنظمات الإنسانية المحلية الشريكة التي أنشأتها الجماعة في ظرف قياسي، للقيام بتلقي الدعم المقدم ومن ثم البدء في توظيفه لخدمة أهدافها، وأبرزها دعم المجهود الحربي.
وفي حين اختفت من واجهة النشاط الإنساني أغلب المنظمات المحلية المعروفة والتي عرف عنها العمل منذ سنوات، ظهرت المنظمات والمؤسسات الحوثية، الجديدة، على أنقاضها، لتصبح الأداة الأولى في السطو على المساعدات وحرمان أغلب الفئات اليمنية منها، ومن هذه المنظمات مؤسسة «بنيان» و«الزهراء» و«الإمام علي».
وبحسب تأكيدات ناشطين محليين في المجال الإغاثي، أصبحت مؤسسة بنيان الحوثية، على سبيل المثال، في المرتبة الأولى من حيث الاستيلاء على الحصة الأكبر من الدعم الغذائي الإنساني، وتسخيره لصالح أسر مقاتلي الجماعة وجرحاها، وأتباعها الطائفيين.
وخلال الأشهر الأخيرة، امتد نشاط المؤسسات الحوثية إلى أغلب المناطق الخاضعة للجماعة، لكنها ركزت نشاطها أكثر على المناطق المرشحة لتحريرها من قبل قوات الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، مثل مناطق الساحل الغربي والجوف والبيضاء.
كما ابتكرت الجماعة تحت لافتة العمل الخيري تأسيس أفران ضخمة في صنعاء بدعوى توفير الخبز للفقراء، في الوقت الذي يؤكد سكان الأحياء المجاورة لهذه الأفران أن أغلب ما تنتجه يتم توزيعه على عناصر الميليشيات، وأتباعهم، كما يتم شحنه إلى جبهات القتال لتغذية مقاتلي الجماعة.
وفي السياق ذاته، قال موظفون في قطاعات تتقاطع عملها مع المؤسسة لـ«الشرق الأوسط» إنه خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، وزعت مؤسسة بنيان الحوثية، نحو مليون سلة غذائية على الأقل، على عناصر الجماعة وأسر مقاتليها، في صعدة والجوف وصنعاء، فيما رافق عملية التوزيع المجاهرة رسميا بأن هذا الدعم المقدم يأتي في سياق «المساهمة في رفد الجبهات».
الدعاية المجانية
دأبت المصادر الرسمية للجماعة إلى الإشارة في سياق تغطيتها لأنشطة منظماتها إلى أن ما تقدمه من مساعدات هو ضمن مشاريع لتلميع قادتها، باعتبار أنها هدية منهم، كما حدث مع المساعدات التي قدمتها مؤسسة بنيان باسم رئيس المجلس السياسي الانقلابي صالح الصماد الذي قتل بغارة للتحالف في الحديدة قبيل أشهر.
وفي الوقت الذي عينت الجماعة قيادات من أتباعها على رأس الهيئة الوطنية للإغاثة وفروعها في مناطق سيطرة الجماعة، سخرت أنشطتهم في أوساط النازحين والفئات الفقيرة لتلميع صورة الميليشيات بأنها هي التي تقدم هذه المساعدات وليس المنظمات الدولية.
وبحسب نازحين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» في مديرية عبس التابعة لمحافظة حجة، لجأت الجماعة حديثا إلى مساومتهم عبر منح المساعدات مقابل القبول بالالتحاق بالقتال معها.
وأكد سكان في مدينة الحديدة وأريافها، أن قادة الميليشيات فعلوا معهم الصنيع ذاته، ووصل بهم الحال إلى إخبارهم بأن هذا الدعم الغذائي، أمر به لهم زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، في سياق حرصه على التخفيف عنهم من أعباء المعيشة.
ويقول شهود في صنعاء وذمار إن أغلب القوافل الغذائية التي سيرتها الميليشيات الأخيرة لدعم مقاتليها في الجبهات، هي من الدعم الإنساني المقدم من قبل المنظمات الدولية، غير أن الجماعة تروج في وسائل إعلامها أنه مقدم من قبل السكان المناصرين لها.
وفيما كررت الحكومة الشرعية دعواتها غير مرة للمنظمات الدولية لاعتماد مبدأ اللامركزية في توزيع المساعدات الإنسانية وإيجاد آليات تضمن عدم سطو الجماعة الحوثية عليها أو تجييرها لصالح أتباعها وحرمان الفئات المستحقة الأخرى، كانت الحكومة كشفت عن العثور على مخازن حوثية ضخمة من هذه المساعدات في المناطق التي حررتها في الساحل الغربي هذا العام.
ويرجح مراقبون بأن المساعدات الدولية المقدمة في مناطق سيطرة الميليشيات أصبحت واحدا من أهم عوامل إطالة أمد الحرب وتعزيز صمود الجماعة الانقلابية في مواجهة القوات الحكومية، إذ إنها باتت - على حد قول بعضهم - الداعم الأول للمجهود الحربي وتوفير الغذاء لميليشيات الجماعة.
ووجه كثير من الناشطين المناهضين للميليشيات، على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات من أجل إعادة النظر في طريقة مساعدة اليمنيين، بعيدا عن يد الجماعة التي باتت تعتاش على هذه المساعدات، وتستثمرها لصالح مجهودها الحربي.