تحليل: أزمة العلاقات الفرنسية الألمانية
غالبا ما تشهد العلاقات الفرنسية – الألمانية توترات في العديد من القضايا المشتركة، لكن الخلافات بين البلدين زادت هذد المرة بحدة أكبر في إطار انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية، التي ألقت بتداعياتها على القارة الأوروبية خاصة والعالم عامة.
لذلك التقى المستشار الألماني، شولتز، الرئيس الفرنسي، ماكرون، في باريس، يوم 26 أكتوبر 2022، في زيارة اعتبرها كثيرون محاولة لرأب الصدع بين البلدين مؤخراً، وإعادة إطلاق للعلاقات الثنائية المتعثِّرة بسبب الخلافات حول العديد من الملفات مثل الطاقة، والدفاع، والعلاقات مع الصين. وفي حين أشار مسؤولون فرنسيون وألمان إلى أن هذا اللقاء كان ناجحاً، تؤكد بعض المؤشرات أن العكس هو الصحيح، وأن الخلافات ما زالت قائمة بين البلدين، وقد يتسع مداها خلال الفترة القادمة.
قضايا الخلاف:
1- أزمة الطاقة: يتمحور الخلاف في هذا الملف حول ثلاثة أمور، الأول معارضة ألمانيا لتحديد سقف لأسعار الغاز خوفاً من نقص الإمدادات، على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا. والأمر الثاني يرتبط بإطلاق الحكومة الألمانية، في 21 أكتوبر الماضي، برنامجاً بقيمة 200 مليار يورو للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء على المواطنين والشركات بها، وهو ما اعتبرته دول التكتل الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا، أنه سيؤثر على المنافسة. والأمر الثالث يتعلق بإعلان فرنسا تعزيز التعاون مع البرتغال وإسبانيا لبناء خط جديد لنقل الهيدروجين، وفي حالات الطوارئ الغاز أيضاً، بين برشلونة ومارسيليا، وهو ما سيكون بديلاً لخطط بناء أنبوب لنقل الغاز بين إسبانيا وفرنسا عبر جبال البرنيه، الذي كانت تفضِّله ألمانيا.
2- الملف الدفاعي الأوروبي: تتباين المقاربتان الفرنسية والألمانية فيما يتعلق بتطوير الأمن الأوروبي وسياسة الدفاع الأوروبية المشتركة، إذ تريد برلين الاعتماد على الولايات المتحدة في تطوير أنظمتها الدفاعية، فيما تسعى باريس لتعزيز الاستقلال الأوروبي عن التأثير الدفاعي الأمريكي بشكل عام.
3- العلاقات مع الصين: وافق الائتلاف الحاكم في ألمانيا بقيادة شولتز على السماح لشركة الشحن الصينية العملاقة "كوسكو شيبينغ هولدنجز"، بالاستثمار في أكبر ميناء في ألمانيا بمدينة هامبورج الشمالية، الأمر الذي أثار خلافاً مع فرنسا، لأن ماكرون كان قد دعا دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم علاقتها مع بكين، معتبراً أن السماح للأخيرة بالاستثمار في البنية التحتية للموانئ الأوروبية "خطأ استراتيجي".
الدوافع المُحرِّكة للأزمة:
1- تصاعد التنافس الفرنسي – الألماني.
2- السعي لتعزيز النفوذ العسكري: من المعروف أن ألمانيا تقود قاطرة الاتحاد الأوروبي على المستوى الاقتصادي، وفرنسا تقود الاتحاد عسكرياً، وذلك نابع من كون برلين خفَّضت نفقاتها الدفاعية في السنوات الماضية في مقابل تعزيز نمو اقتصادها، وسط مطالبات أوروبية وفرنسية أيضاً بزيادة الإنفاق العسكري الألماني في حلف الناتو. وقد دفعت ظروف الحرب الأوكرانية، ألمانيا إلى إعادة النظر في عقيدتها العسكرية، فأنشأت، في مايو 2022، صندوقاً بقيمة 100 مليار يورو لتحديث جيشها، مما يعني أن ميزانية برلين الدفاعية ستفوق نظيرتها الفرنسية البالغة 44 مليار يورو.
3- إغراءات القيادة الأوروبية: يبدو أن التنافس الألماني - الفرنسي يدور على القيادة داخل الاتحاد الأوروبي، خاصةً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد والفراغ الكبير الذي تسعى القوتان إلى سده. وسيعكس تجاوز الخلافات الحالية، قدرة الطرف الأقوى على فرض مواقفه.
تداعيات خطيرة للخلافات:
1- تقليل نجاح المشروعات المشتركة: بمعنى أن فرص نجاح المشروعات الأوروبية المشتركة ستظل محدودة مع استمرار الخلافات بين فرنسا وألمانيا.
2- زيادة الانقسامات الأوروبية: من المعروف أن ألمانيا وفرنسا تنسقان عادةً قبل قمم الاتحاد الأوروبي. وبمجرد التوصل إلى اتفاق بين البلدين، تُشكِّل مواقفهما بشأن القضايا الرئيسية خريطة طريق للعمل الأوروبي.
3- تهديد بقاء الاتحاد الأوروبي: ثمة أزمات مقلقة داخل الاتحاد الأوروبي، تتعلق بحجم ديون دول الاتحاد، وآليات الإنعاش الاقتصادي، ومدى الالتزام بالمعايير الديمقراطية في بعض الدول، والتفاوت الاقتصادي والتنموي أساساً بين شرق وغرب أوروبا.
الخلاصة:
تدرك القيادة في فرنسا وألمانيا انعكاس الخلاقات الثنائية بين البلدين على حاضر ومستقبل الاتحاد الأوروبي، لذا المرجح أن تعمل باريس وبرلين على تقليل هذه الخلافات، وضمان عدم وصولها لدرجة التأثير على الاتحاد نفسه، على الأقل في المرحلة الحالية، خاصةً في ظل تزايد التهديدات المشتركة التي تواجه الدول الأعضاء، وفي الوقت ذاته سيعملان أيضاً على تعزيز نفوذهما داخل أوروبا والعالم، وهي معادلة حساسة للغاية. ومع ذلك قد تتطور الخلافات والمنافسة بين البلدين الكبيرين الأوروبيين.