الاستغماء العربي
هاني مسهور
- لحظة لإفاقة العقل اللبناني
- حتى لا تكون بيروت عدن أخرى
- من شيخان الحبشي إلى عيدروس الزبيدي .. الاستقلال يعنى الاستقلال
- تل أبيب بعد أرامكو.. الحوثي على رقعة الشطرنج
يقول المثل العربي «معظم النار من مستصغر الشرر»، فهذه الأدخنة التي تغطي سماء الخرطوم جاءت من جمرات تحت رماد كان الكل يعلم به في السودان كما تدركه البصائر الحادقة في غير هذه البلاد.
فاليمن وليبيا ولبنان فيها جمرات نار تحت رماد سنوات من الصراعات السياسية. ثمة مسألة من المهم استدعاؤها في العقل السياسي العربي، وهي أن البنية الوطنية تعاني من مشكلة عميقة للغاية يجب التعامل معها بجدية وإلا فإن المحصلة ستكون دائماً هي الحرب الأهلية وإن الانزلاق في أتونها سيدمر ما تمكنت القوى الوطنية في كل بلد عربي من الاحتفاظ به.
أمام واقع المشهد المهيب علينا استذكار أن بلداناً عربية عانت من تغول قوى الإسلام السياسي وشكلت امتدادات عميقة فيها، فالسودان كمثال فقط كان واحداً من البلدان التي كانت موطناً من مواطن تواجد جماعة «الإخوان» منذ الانقلاب في عام 1989، وأن الجماعة وظفت حدود البلاد السياسية لتكون أرضية لتوسيع نفوذ الجماعة، وأن الخرطوم كانت في العام 1991 حاضنة للمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي ترأسه حسن الترابي واستدعيت لذلك المؤتمر كل «قيادات التنظيم الدولي»، ومنه خلقت تكوين الأذرع «الجهادية» بداية من تأسيس «تنظيم القاعدة» الإرهابي في اليمن.
هذا العمق الذي نخر في أسس البناء الوطني ليس وليد لحظة، إنما هو امتداد من المهم التعامل معه بحقيقة وجوده وليس بالاستغماء بمبررات المحاصصة في تكوين للديمقراطية التي يمكن أن تمنح شرعية سياسية ترضي القوى الرأسمالية التي تفرض هيمنتها على تشكيل القوى السياسية في العالم، دون إدراك أن مشكلتنا في العالم العربي أن القوى ذات التوجهات الإسلامية لا تؤمن أصلاً، بمفهوم تداول السلطة، وأنها تريد تحقيق مستهدفها بإقامة دولة الخرافة وإنشاء كيانات باتجاهات دينية متشددة، ستقصي المواطن من وطنيته في مقابل الدولة الإسلامية الجامعة.
لم يكن ما يسمى بـ«الربيع العربي» غير موجة من موجات صعود الإسلام السياسي عبر التاريخ العربي، فهذه واحدة من الحقائق التي تعاملت معها الدولة الوطنية العربية منذ نشأتها بميلاد ثورة مصر في يوليو 1952، صراع الدولة الوطنية مع القوى الإسلاموية ليس طارئاً ولا حتى هو سريٌّ، إنما هو سياق ممتد تعاملت معه الدول والشعوب حتى بلغت ذروته في إسقاط الشعب المصري لحكم جماعة «الإخوان» في 2013، وما تلا ذلك كان استمرارية في الصراع بأكثر من شكل وإطار، ولم يكن مجهولاً للسياسي العربي أن من يطلق عليهم في العقل الجمعي «الفلول» كانوا يعملون للعودة إلى المشهد السياسي، بعد أن سقطوا من أعلى مواضع الحكم في غير بلد عربي. مثلت عمليات الانتقال السياسي فرصة مواتية لعناصر «الإخوان»، وكافة القوى الدينية للتسلل وتفجير الأزمات مع القوى الوطنية.
سياسة التضاد لا يمكن أن تخلق نتيجة سياسية سليمة بالإطلاق فلا المرجعيات الدينية تقبل بالدولة العلمانية ولا العلمانية تقبل بانفراد التوجهات الدينية، والسودان ضحية من ضحايا الانتقال السياسي كما هي الحال في اليمن وليبيا ولبنان، هذه هي الحقيقة حتى وإن استغمى السياسي العربي عنها فهذا هو الحاصل من عملية مشوهة عملت فيها عناصر الجماعات الإسلاموية على إعادة تموضع ضمن عملية سياسية يريدون منها العودة إلى السلطة السياسية. «ترابي» السودان و«غنوشي» تونس و«زنداني» اليمن معلومون بشخوصهم وتوجهاتهم، ومعروفة أفكارهم، ومن الخطأ قبولهم وقبول رؤاهم في البنية الوطنية لأي كيان سياسي صحيح.
إدراك الحقيقة والتعامل معها بواقعية الضمان الوحيد بعدم الانزلاق في حروب أهلية قد تعيدنا للمربع الأول فما زالت الجروح العميقة من تلك الحروب يعيشها اللبناني واليمني والصومالي والعراقي. فالكل مصاب بجروح حروب شرسة دفعت ثمنها الشعوب من مقدراتها. ولا يمكن لأحد تكرارها بأثمان باهظة، وحتى لا تكون يجب عدم الاستغماء عن مسبباتها.