من نافذة استكهولم

المصافحة الحارة بين ممثل الحوثيين إلى مشاورات أو مباحثات السويد الأخيرة والأخ خالد اليماني وزير الخارجية، ذكرتني بمصافحة تاريخية مماثلة وإن كانت بمسوح الدراما العاطفية بين ممثل الملكيين الأستاذ أحمد محمد الشامي وممثل الجمهوريين الأستاذ أحمد محمد نعمان في محادثات الطائف التي أفضت إلى إنهاء الحرب الأهلية الأولى التي امتدت من قيام الجمهورية في سبتمبر 1962م وحتى تلك اللحظة من العام 1970م يومها احتضن كل منهما الآخر وأجهشا بالبكاء، بينما ردد أحدهما البيت الشعري الشهير بعد تعديله قليلا:
وقد يلتقي (الشقيقان) بعدما * ظنّا - كل الظن - أن لا تلاقيا 
يحدث ذلك وسط اندهاش الفريق مرتجي ممثل الجانب المصري للمباحثات الذي لم يتمالك نفسه وقال بطريقته المصرية: (أُمّال تقاتلتوا ليه يا عيال.....).
 
 فـ "الشامي" و "النعمان" كانا قطب الرحى في حركة ( الأحرار) التي قادت ثورة أو حركة - إن شئت - فبراير الدستورية عام 1948 م والتي أودت بحياة الإمام  يحيى حميد الدين في حزيز بالقرب من صنعاء، وكلاهما مر بأعجوبة من تحت سيف (الوشاح)، ثم استطاع كلٌّ بذكائه الملفت أن يخرج من سجن حجة الرهيب ويطوي صفحة الثورة ويتقرب من الإمام أحمد ونجله محمد البدر، ويصطفا في صفيهما عندما قاد المقدم الثلايا انقلابا عسكريا فاشلا في العام 1955م بمدينة تعز ضد الإمام أحمد ولصالح أخويه عبدالله والعباس.
 
 ومع اقتراب العهد بالثورة والجمهورية كان الأستاذ النعمان قد عاد إلى معسكره الأول في صفوف (الأحرار)  ليستمر الشامي في خدمة الملكية حتى تاريخ المصالحة. 
والحقائق التي لا ينكرها إلا جاهل بتاريخ اليمن هي أن الإرادات الخارجية عادة ما تكون لها اليد الطولى في تحديد مسار السياسة في اليمن، فعندما اتفق عبدالناصر وفيصل - رحمهما الله - غداة نكسة حزيران 1967م حدد أفقا للتصالح الداخلي في اليمن كان من نتائجه، بعد تنازلات من هنا وهناك، أن يظل مسمى الجمهورية وأن يفسح المجال لشراكة سياسية في الحكم للملكيين، في ظل أجواء الجمهورية الثانية التي جاء بها انقلاب 5 نوفمبر 1967م برئاسة القاضي الأرياني وبإقصاء الجناح الثوري المتمثل بالرئيس الأول عبدالله السلال، وصولا إلى تصفية القوى التقدمية والقومية في أحداث أغسطس 1968م الدموية.
 
وحتى في ظل الجمهورية الهشة كان بالإمكان أن تدخل - وهي للأسف لم تدخل - عبر إصلاحات بينوية حقيقة في مجالات التعليم والثقافة وسواهما، إلى المربعات القبلية الملكية التي ظلت ترضع من ثدي الموروث الإمامي، وتستوعب الجمهورية بدلا من أن تستوعبها الجمهورية التي استنفدت قواها في التمكين القحطاني بدلا من العدناني، وفي الحروب النازفة المستمرة.
سوف نشاهد من نافذة استكهولم كم كانت الشرعية مبعثرة الرؤى، وهي حالتها الطبيعة مذ ما قبل الحرب، هي حالات وليست حالة واحدة، بينما جبهة الخصم موحدة، وقد أفرزت الحرب أمراءها من الجانبين وليس من مصلحتهما إيقاف سعيرها الذي يدر أموالا من عملات ذات قيمة، تماما كما كانت الجنيهات (الحمراء) تخطف أبصار الملكيين والمتجمهرين نهارا الملكيين ليلا، أما الضحايا فهم (الأبتال - جمع بتول) كما قال سالمين رحمه الله، هم الملايين الأربعة والعشرون الواقفون على الجمر الملتهب وعلى شفا المجاعة، نستثني - طبعا - المليون حرامي ممن رتبوا أمر دنياهم في الحرب بأموال نهبوها من كد وتعب وعرق وضنك الشعب، ويا ليتهم أخفوا رؤوسهم كالنعام حياء بل راحوا يتباهون في ظل مأساة شعبهم بالعمارات والفلل والحفلات والأعراس الباذخة في عواصم الدنيا من الرياض إلى أنقرة ومن القاهرة إلى لندن، دون خشية من الله أو وازع من ضمير.
 
ستقف الحرب بمشيئة خارجية كالعادة، وسوف تقف تلك الأم بانتظار ابنها الذي ذهب إلى الحرب عله يخرج إليها من بين الركام والدخان وأكوام الجثث!