أحداث الجنوب نتيجة متوقعة لربع قرن من الإقصاء والاستحواذ

قاوموا بكل صلافة مشروع الدولة اليمنية الموحدة المدنية، مشروع "وثيقة العهد والاتفاق" الذي صاغته كل النخب والعقول اليمنية كحل للأزمة السياسية التي ظهرت غداة وحدة 90م، ذلك المشروع السياسي الذي تم التوقيع عليه بالعاصمة الأردنية عمّان مطلع 94م، وهو عام الحرب على الوحدة وعلى الشريك الجنوبي، وأشاد  به - أي بالمشروع السياسي - العالم كله، ليس فقط لأنه يمثّل مخرجا لتلك الأزمة ويجنب اليمن من كارثة الاقتتال والانزلاق إلى هوة الضياع؛ بل لأنه يمثل مشروعا سياسيا طموحا يمكن لليمن من خلاله اللحاق بركب الأمم والشعوب المتقدمة. ففي ذلك المشروع حل وافي لهيمنة المركز وسطوة نفوذ تلك القوى وغياب دولة النظام والقانون، كما أنه فرصة تاريخية تسود بها دولة المؤسسات عوضا عن دولة العُكفي وسلطة الزعيم الملهم. ولكن مراكز القوى التقليدية القبيلة والدينية والسياسية والعسكرية رأت في ذلك المشروع خطرا داهما على مصالحها ونفوذها، واستمات لإجهاضه بالمهد برغم ما ظلت تعلن - زيفا وخداعاً - التزامها به، تحاشيا للصدام السياسي مع الأغلبية الساحقة من الشعب بالشمال والجنوب ومع الجهات الدولية الشاهدة على التوقيع، وهي تضمر الإجهاز عليه نهائيا.

وكان لها ما أرادت حين عمدت إلى حرب عسكرية شاملة للهروب من ذلك الاستحقاق.. وما أن انتهت الحرب العسكرية في 7 يوليو حتى أسفرت تلك القوى على موقفها الحقيقي، من ذلك المشروع الطموح "وثيقة العهد والاتفاق"، أو كما بات يحلو لتلك القوى أن تسميه بعد الحرب بمشروع وثيقة الغدر والانفصال. ومثلت تلك الحرب المرحلة الأولى بعملية قتل الوحدة، تلتها مرحلة الإقصاء السياسي الشامل للشريك الجنوبي وإفراغ دستور دولة الوحدة من مضمونه نهائيا، والعبث بحقارة بتاريخ الجنوب الحديث والقديم ونهب ثرواته ومحاولة تشويه وطمس هويته وإرثه الحضارية وخصوصيته تحت ذريعة محاربة تركة النظام الشمولي والتصدي للانفصاليين، حدث هذا منذ الأشهر الأولى التي تلت تلك الحرب، بمجرد أن "عشّقَ المنتصرون بمعاشق"، بحسب وصف الرئيس علي ناصر محمد. بعد أن استوت سفينة الغزو على جودي الاستحواذ والنهب، وعجرفة منطق: عودة الأصل إلى الفرع.

ولكن وبرغم مرارة تلك المرحلة وسطوة ما تلاها من مراحل قاسية، ظل الجنوبيون يتلمسون كل الدروب والأبواب للخروج من تلك الدوامة، ولسان الحال يردد: لعل وعسى. وكانت بوابة الحزب الاشتراكي أولى تلك الأبواب، حين أطلقت بعض قياداته وقواعده مبادرات حلول سياسية لإصلاح ما أفسده حمقى الوحدة، مثل مبادرات: المصالحة الوطنية، وإصلاح مسار الوحدة التي أطلقها المناضلان: د. محمد حيدرة مسدوس، وحسن باعوم، رافقها نشاط جماهيري رافض لمنطق فرض الوحدة بقوة الحديد والنار، وكانت عدن والمكلا ساحات ذلك الرفض الشعبي الذي تشكلت منه إرهاصات الثورة الجنوبية "الحراك الجنوبي". ولكن سلطات 7 يوليو سرعان ما أوصدت تلك النافذة الحزبية السياسية. ليجد الجنوبيون أنفسهم مرة أخرى مكشوفي الظهر تحت هجير الاستبداد ونار الاحتلال الوحدوي. ولم يكن أمامهم بدٌّ من أن يستظلون بظل شجرة جنوبيتهم، كجدار أخير وحصين.

القوى التي أجهضت مشروع الوحدة بحرب 94م هي ذاتها التي أمعنت باستبداد الجنوب وقهره وشطبه من الخارطة ومن الشراكة الوطنية، وهي ذاتها التي رفضت فيما بعد الاعتراف بخطيئتها التاريخية، وظلت حتى اليوم تكابر بعدم إقرارها الصريح بوجود قضية سياسية وطنية اسمها القضية الجنوبية ولدت من رحم جُرم إفشال الوحدة بين دولتين.. كما أن هذه القوى هي التي نراها اليوم ترفع عقيرتها بما يجري اليوم بالجنوب، وتتضرع لدى العرب والعجم أن يتدخلوا لإبقاء الجنوب تحت رحمتها، ولقمع كل مطلب فيه.

خلاصة القول: ما يجري اليوم بالجنوب هو نتيجة طبيعية كانت متوقعة الحدوث.. نتيجة لأسباب تراكمت خلال ربع قرن من التسلط والهيمنة، ومن عدم الاعتراف بوجود قضية فضلا عن التمنع بالقبول بحلها حلاً عادلاً دون خطوط حمراء أو سوداء.​