اليمن.. بين 2011م و2019م .. من هم الانقلابيون؟
صالح أبو عوذل
- عن الحوار السياسي بين قيادة الانتقالي و المقاومة الوطنية
- المجلس الانتقالي الجنوبي.. مشروع دولة أم حزب سياسي معارض؟
- الشرعية اليمنية والدرس المصري البليغ
- الإمارات .. حليفنا الصادق والوفي
حين قرر الجنوبيون الدفاع عن مشروعهم وحقهم في السيادة على أرضهم، ظهرت الكثير من الأصوات التي تجاوزت في لغتها مفردات الانتقاد إلى حد الشتم وبألفاظ قبيحة، والتشكيك في نسب "عرب الجنوب"، وكأن تلك هي الورقة الأخيرة التي تمتلكها هذه القوى.
فكلما عزم الجنوب على طرح قضيته، ظهرت أصوات نخب اليمن للحديث عن "أن نسب الجنوبيين يعود إلى الهند والصومال"، مع أن الجنوبيين لم يلقوا باللوم ولو لمرة واحدة على سيف بن ذي يزن، وقضية "خريجي سجون فارس"، الذين جلبهم إلى صنعاء ومدن الشمال، وأصبح الكثير منهم يتحدث عن "أصل العرب".
ذات مرة، ظهرت قناة "اليمن" الرسمية التي تبث من الرياض وبأموال السعودية، تتحدث عن أن المطالبين بالاستقلال في الجنوب "هم هنود وصومال وأفارقة"، وأنهم ليسوا عربا حتى يطالبوا باستقلال الجنوب، أو كما أسمته القناة "انفصال الجنوب".
وبعيدا عن الخطاب اليمني الشمالي الذي لم يتغير منذ أن مهدت "فتوى تنظيم الإخوان" التكفيرية الطريق أمام نخب يمنية "تمارس القبح والشتيمة للدفاع عن مشروع الباطل".. فطالما وهناك من يتحدث عن "انقلاب في عدن"، وبأن إجراءات الجنوبيين التي تمت تعتبر انقلابا، دعونا نتحدث عن ما حصل في شمال اليمن، ليس منذ الانقلاب على نظام الإمامة، ولكن منذ أحداث 2011م، وهو العام الذي شهد انهيار ما تبقى من شكل الدولة الهشة في اليمن.
ما حدث في 2011م، من وجهة نظري، ليست ثورة، وليست معالجة لقضية اليمن ومحاربة الفساد، بل كان مشروعا قطريا تدعمه إلى جانب الدوحة بعض الأقطاب الإقليمية والدولية، والهدف ليس نهضة اليمن، ولكن إسقاط اليمن في أتون الفوضى والحرب والتدمير.
وحتى نضع النقاط على الحروف.. إيران وقطر من دعم الحوثيين وجعلتا منهم مليشيات مسلحة قتلت أكثر من 500 جندي وضابط، أغلبهم جنوبيون في معارك صعدة، بينهم ثلاثة قادة ألوية من مكيراس وحدها، قضوا في معارك ضد الحوثي.
مولت الدوحة الحوثي باسم "إعادة إعمار صعدة"، كما مولت التنظيمات الإرهابية في الجنوب باسم "صندوق معالجة قضية الجنوب".
لم يكن علي عبدالله صالح وحده من يحكم اليمن آنذاك، بل كانت القبلية والهضبة الزيدية هي من تحكم، إلى جانب صالح الذي سلم مقاليد الأمور لشيوخ قبائل طوق صنعاء الذين كانت لهم علاقات إقليمية مع دول الجوار، والكثير منهم كان ينفذ تعليمات تصله من مكاتب السفارات والقنصليات في صنعاء، ولم يكن يعترف بدولة علي عبدالله صالح، الذي كان يعتقد أنه يمارس الرقص على رؤوس الثعابين، في حين أن الثعبان الأكبر كان يمتلك قوات عسكرية هي الأضخم من قوات الحرس الجمهوري التي يمتلكها صالح، وهي قوات الفرقة الأولى مدرع، التي لم يجرؤ "صالح" على الاقتراب منها.
انتفض اليمن، كله في مطلع العام 2011م، على أمل الخلاص من نظام علي عبدالله صالح، الذي لم يكن نظاما سياسيا يخص صالح وعائلته، بل كان نظاما عميقا وواسعا تتقاسم القبيلة والتنظيمات الإسلامية الجزء الأكبر منه، فمن تصدروا ما سميت بالثورة، كانوا جزءا من نظام صالح، بل إن نظام صالح جعلهم جزءا من تكتل سياسي، على أمل أن يوظف من جندهم الأحمر والزنداني للقتال في أفغانستان في حربه ضد الجنوب شريك الوحدة.
بـ"حنية وحفاوة"، استقبل علي محسن الأحمر وتوكل كرمان وحميد الأحمر الحوثيين على مدخل صنعاء، وأدخلوهم ساحة الجامعة تحت هتاف "حيا بهم حيا بهم"، فأصبح الحوثيون جزءا من معادلة سياسية مفروضة، بعد أن كان فيصل رجب ورفيقه ثابت جواس قد اقتربوا من القضاء على عصابة التمرد في صعدة.
فالحوثيون الذين كانت قوات رجب وجواس تحاصرهم في صعدة، وجدوا أنفسهم دون "طلقة رصاص" في ساحة الجامعة بصنعاء، وأصبحت الأموال تتدفق عليهم إلى الخيام لشراء الأسلحة والولاءات.
انقلب حلفاء صالح "الإخوان" عليه أو نقول أطاحوا به من الحكم، مع أن إزاحته كانت عن طريق مبادرة خليجية يقول صالح إنه كتبها بخط يده، لكن على أي حال ترك السلطة وسلم علم الوحدة اليمنية لنائبه عبدربه منصور هادي.
كان الحوثيون حينها يشكلون الورقة الأقوى، فهادي كان يريد يكسب ودهم، وكذا الإخوان وصالح، كل هذه الأطراف الثلاثة كانت لها حساباتها مع الحوثيين.
استلم هادي الحكم "أو استلم صنعاء وهي مقسمة إلى ثلاثة أقسام"، وأدخل القوى السياسية في مؤتمر الحوار اليمني، وكان الحوثيون أبرز القوى المشاركة، مع أنهم لم يصبحوا بعد قوة سياسية، "بل هم جماعة طائفية سلالية"، فالقانون اليمني رقم (66) لسنة 1991م بشأن الأحزاب والتنظيمات السياسية، يؤكد أنه لا يحق للحوثيين كجماعة "دينية طائفية جهوية إقامة تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية أو المساعدة في إقامتها، ناهيك عن جماعة اختطت العنف سبيلا للسيطرة على اليمن".
حارب هادي والقوى التي تحالفت معه الجنوب، وحتى الفريق الذي شارك في مؤتمر الحوار بقيادة محمد علي أحمد، أزاحه هادي، لكنه لم يزح جماعة الحوثي، بل إنه اعتقد أنها ورقته الرابحة، ففي حين كان الجدل يدور في فندق موفنبيك عن شكل "الدولة اليمنية"، كان الحوثيون يسقطون المناطق والمعسكرات بكل سهولة، وحين اقتربوا من السيطرة على عمران، كان هادي يعتقد أنهم قد أزاحوا أحد أبرز خصومه السياسيين "علي محسن الأحمر"، الذي كان يتبادل في الهاتف الشتائم ويمنّ عليه بأنه بفضله أصبح رئيسا لليمن.
كان صالح ينتظر الفائز في المباراة الأخيرة.. فحسابات صالح كانت تقول إن الفائز سيحصل على جائزة سعودية "شريطة أن يعلن الولاء لها". ترقب صالح في هدوء، في حين كان الإخوان يحمّلون هادي هزيمة عمران ومقتل أحد أبرز قادتهم.. كان هادي قد أرسل وفدا يمنيا إلى جنوب لبنان، قال لي الرئيس علي ناصر محمد شخصيا إنه وفد يمني ذهب لبحث علاقة تعاون وشراكة بين صنعاء وطهران، وقد التقاهم الرئيس ناصر في بيروت.
صنفت السعودية الإخوان في اليمن كتنظيم إرهابي، وظن صالح أن الطريق إلى الرياض أصبحت سالكة، وأنه عائد ولو عن طريق نجله "العميد أحمد"، وهو قائد عسكري قوي يتمتع بنفوذ كبير لا يقل عن نفوذ والده الذي كان رئيسا،، فهو قائد لقوات الحرس الجمهوري (جيش النخبة).. لكن الإخوان سارعوا إلى لقاء زعيم الحوثيين دون علم هادي وبطائرة عسكرية أقلتهم من مطار قاعدة الديلمي في صنعاء إلى صعدة، بتوجيهات من علي محسن الأحمر الذي لم يكن يمثل أي صفة رسمية في حكومة هادي باستثناء انه قائد عسكري زيدي، فقواته تم حلها ضمن الهيكلة التي قام بها الرئيس الانتقالي حينها.
التقى زعيم الإخوان محمد اليدومي بزعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي في أغسطس 2014م، فأسقط الحوثيون صنعاء بعد ذلك اللقاء بشهر دون أي مقاومة من قوات صنعاء الضخمة، وكانت حصيلة اشتباكات محدودة في محيط التلفزيون اليمني "سبعة قتلى" أغلبهم مدنيون، حينها كان علي محسن الأحمر يحزم أمتعته صوب الرياض، وإن كان متقمصا "دور حرم السفير السعودي"، لكنه ظن أن رهان الرياض في محاربة حلفاء إيران سيكون عليه، وأنه قد يعود حاكما لليمن للانتقام من الجميع بمن فيهم هادي.
في مطلع 2015م، حاصر الحوثيون صنعاء وأسقطوا كل شيء ووصلوا إلى بيت الرئيس الذي قدم استقالته، قبل أن تتدخل الإمارات العربية المتحدة بكل ثقلها لتنقل هادي من صنعاء إلى عدن، ليقلب الطاولة على الجميع بمن فيهم صالح الذي كان ينتظر انتهاء المباراة النهائية في صنعاء.
من عدن، شعر صالح أن هادي قد نجح في الإفلات وأن الحرب التي يتوقعها من الخليج قد أصبحت واقعا لا مفر منه، سارع صالح إلى التمترس في صف الحوثيين، الذين سيطروا على كل شيء، بما في ذلك الترسانة العسكرية التي جمعها صالح طوال ثلاثين عاما.
ظن صالح أن المعركة مع الجنوب ستكون قصيرة للغاية، وأن مصير هادي الفرار دون عودة من عدن، وبعد أن تصبح عدن عاصمة خامسة في قبضة إيران، يفاوض صالح الخليج على محاربة الحوثيين أو على الأقل إزاحتهم من الحكم.
ناور "صالح" كثيرا، فيما الإخوان الذين كانوا قد اتفقوا مع الحوثيين على رئيس بديل لهادي وقفوا على الحياد، حين ظهر هادي من قصر معاشيق، واستمروا في الحياد إلى بعد أسبوع من انطلاق علميات "عاصفة الحزم"، حينها سارعوا للقاء هادي في الرياض وقدموا أنفسهم على أنهم الحاكمون الجدد وأنهم القادرون دون غيرهم على محاربة الحوثيين.
لم تكن جماعة الحوثي بمقدورها إسقاط كل اليمن في مدة قصيرة لو لم تجد أمامها قوى سياسية هشة ورئيسا ضعيفا اعتقد أنه يستطيع الرقص على رؤوس الثعابين كما زعم صالح قبله.
كان الجنوب هو الصخرة التي تحطمت عليها مليشيات الحوثي، فالجميع لم يقاوم ولم يقاتل للدفاع عن "الشرعية" التي لم يكن الجنوب جزءا منها، بل الجميع قاتل وتحت راية "اليمن الجنوبية"، لصد العدوان اليمني الشمالي الثاني والدفاع عن مستقبل القضية الجنوبية.
وفي أقل من ثلاثة أشهر من القتال نجح الجنوبيون، وبإسناد من القوات المسلحة الإماراتية، في تحرير بلادهم، ولكن بعد أن قدموا قوافل من الشهداء في سبيل حلم "استعادة دولتهم الجنوبية"، ولكن هذا الحلم عادت القوى اليمنية التي اختطفت الحكم لتبديده باسم هادي الرئيس، ليس فقط بالسيطرة على الحكم لمصلحة نائبه علي محسن الأحمر الذي أصبح في مطلع 2016م نائبا للرئيس وبصلاحيات كبيرة، وبضوء أخضر سعودي، على أمل أن الرجل - الذي لا تزال مصالحه التجارية والاقتصادية في صنعاء يديرها نجله - سيهزم الحوثيين أو يقود معركة حقيقية ضدهم لتحرير العاصمة اليمنية.
تحرر الجنوب، وظنّ الجنوبيون أن الوقت قد حان لجني ثمار الانتصار، لكن هادي وفريقه الشمالي كانت لهم خيارات أشد قساوة تجاه الجنوبيين الذين تعرضوا لضربات موجعة من قبل التنظيمات المتطرفة، فقد قُتل وجرح المئات من قادة ومنتسبي المقاومة الجنوبية في هجمات وعمليات إرهابية، كان الهدف منها إفشال قرارات جمهورية صدرت من هادي بدمج المقاومة الجنوبية في الجيش والأمن.
لم تنته حرب الجنوب مع الحوثيين، حتى بدأت حروب أخرى، فالجماعات المسلحة بدأت تنشط في الجنوب بشكل كبير، وباتت المكلا إمارة قاعدية، كانت تضرب الجنوب دون غيره.
حاول الجنوبيون وبدعم إماراتي أن يجعلوا من قرارات هادي واقعا جديدا، فكانت قوات الدعم والإسناد أحد أبرز النجاحات التي تحققت، لكن هذه القوات التي تشكلت بقرارات من هادي أصبحت لاحقا "مليشيات مسلحة" خارج سيطرة الدولة الإخوانية الجديدة.
وحينها انحرفت بوصلة الحرب من معركة ضد الحوثيين إلى معارك كثيرة ضد الجنوب.
أزاح الإخوان كل المسؤولين الجنوبيين من المناصب القيادية، ومنعوا إعادة افتتاح تلفزيون وإذاعة عدن، وأدخلوا العاصمة والمدن الجنوبية في حرب خدمات، وعرقلوا بشتى الوسائل إقامة أي شكل من أشكال الدولة.
وحين تمت مواجهة حكومة هادي بذلك، خرج نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية عبدالملك المخلافي للقول وبتباهي "إن ترك عدن في الفوضى كانت مهمة ضرورية حتى لا يساهم الاستقرار والازدهار في المدينة في تحقيق مشروع الانفصال".
كانت السعودية والإمارات تمضيان بقوة نحو هزيمة الحوثيين، في حين كانت حكومة هادي تمضي في مشروع إطالة أمد الصراع في بناء قوات عسكرية وإنشاء مصارف ومراكز تجارية وعقارات، فكان لابد من وضع حد لذلك.. وكان من العيب أن يظل الجنوب في الفوضى والأزمات والمتاجرة بمعاناة الناس.. فكان لابد من أن يكون للجنوب ممثلا قويا يدافع عن خيارات الشعب ومشروعه العادل وحقه في استعادة تراب الوطن الغالي.
لم يكن خيار المجلس الانتقالي الجنوبي المفوض من الشعب ضد أحد، بل كان ضد خصوم الجنوب وخصوم التحالف العربي وحتى خصوم هادي ذاته.
كان لابد من إعادة ضبط الإيقاع على واقع جديد يكون فيه الجنوب ندا لكل من يحاول العبث بحياة الناس.
كان لابد أن ينتهي الابتزاز والمتاجرة بالقضية الجنوبية والقضية اليمنية، وابتزاز التحالف العربي والتلويح بالتحالف مع إيران.. كان لابد أن يدرك التحالف العربي من هم عملاء إيران وقطر في داخل قصور الرياض التي سلمت لحكومة اليمن المغتربة.. كان لابد أن تكون للقوات المسلحة الجنوبية كلمتها وقد كانت، والقادم في وادي حضرموت ومكيراس وبيحان.
#صالح_أبوعوذل