عدن العربية ...بول نيزان
د. شهاب القاضي
- لطفي امان بين النص الأثر والنص الصدى
- في الهوية ... اليمن انموذجا
- شعرية الشجن وسيميائية التشاكل في ديوان (سلاما ايها الفجر ) للشاعرة العدنية عائشة المحرابي
- مارتن جريفيت ثم ماذا بعد ؟
(ان عدن صورة مصغرة عن أوروبا لا تتميز عنها إلا بطقسها الحار القاتل ) جان بول سارتر
1- يتحدث سارتر عن عدن في عشرينات القرن الفائت، وذلك في المقدمة التي وضعها لكتاب عدن العربية للكاتب الروائي الفرنسي بول نيزان، الذي زار عدن هاربا من حياة اوروبا ، وكانت هذه الرحلة كافية لكي يتحول بول نيزان من يساري متمرد الى شيوعي راديكالي ومن ثم الى متمرد مرة اخرى ، وكانت ضرورية لكي يكتب فيها تأملاته وتسجيل بعض الوقائع المتفرقة عن الحياة في عدن في تلك الفترة.
حينذاك كانت عدن مستعمرة بريطانية ، قد وصل اليها ذات يوم اديب فرنسي لم يقل نعم في حياته انه حسب تعبير سارتر ( الرجل الذي قال لا حتى النهاية) ناهيك عن انه يحمل في قلبه كل مرارة العالم. اتهمته عناصر ستالينية في الحزب الشيوعي الفرنسي بخيانة الحزب وذلك لأنه تمرد على الكثير من الاطروحات الستالينية أنداك، فلفقت له تهمة الاتصال بوزارة الداخلية الفرنسية، حينها اطبقت عليه مؤسسات الحزب وحكمت عليه بالغياب سماها سارتر "بمؤامرة الصمت" وذلك لأن الشيوعيين -حسب تعبير سارتر نفسه-(لا يؤمنون بالجحيم ولكن يؤمنون بالعدم )، فلم تطبع كتبه ولم يعد يذكر في الأوساط الثقافية الفرنسية الى ان بادر سارتر ، وقد كان صديقا له، بطبعها مبتدئا بكتاب (عدن ، العربية) في عام 1960 وقد صدر عن دار ماسبيرو -باريس، وقد ترجم هذا الكتاب الى اللغة العربية من قبل الاستاذ القدير بشير خان ، وراجعه الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف وصدر عن دار الهمداني للطباعة والنشر 1984.
2- اكتشف بول نيزان عبر التجربة المباشرة، ان الشرق لم يعد ارض الأحلام ، والفضائل او الأساطير والحكايات العجيبة .. وانه إذا أراد ان يتطهر بالشرق فإن عليه ان يغتسل بماء اوروبا المتسخ ، لقد وجد أن الاستعمار الاوروبي حقيقة كونية .. وهاله ما رأى .
وصل الى عدن وفي خياله صورة مسبقة عنها، بما قرأ من اخبار جزيرة العرب " ان عدن والمكلا ومسقط من الأواخر الجهنمية التي تذكرها روايات البحارة " أو " ان عدن لأكثر مدن الجزيرة العربية كلها جمالا" وروعة وهي محاطة بحيطان عظيمة في ناحية البحر والجبال في ناحية البر " لكنه لما وصل اليها وجد عدن " تهمهم مثل حيوان كثيف الشعر ، كبير الحجم ، قد مرغ في التراب واصبح مغطى بالذباب " انه اللاتجانس الديمغرافي : بيض اوربيون ، هندوس ، صومال ، فرس واهالي حفاة وفي الإتجاه المقابل هناك حركة عظيمة في الميناء المفتوح الكبير ، بواخر البينو، الخطوط البحرية وبواخر الشحن العتيقة ، وناقلات النفط، وقوارب بمحركات والقوارب العربية والبضائع في مخازن المعلا مكدسة حتى السقوف بأكياس السكر والارز وبالات جلود الماعز وبراميل الزيت ، ولربما تحفل هذه المظاهر بخطاب تبريري ، مثلا يمكن ان نسمي هذه الاغراض بالحرب والتجارة والترانزيت وبالاقتصاد الحر الذي يحجب وهما ما تنطوي عليه السياسة الاستعمارية ويخفي اهدافها .
3- عاش بول نيزان في كنف عائلة انجليزية ، ولم يختلط مع الأهالي ، كان يراهم عن بعد وهم نائمون فوق اسرتهم المصنوعة من الحبال ، او يراهم وهم يحتفلون ...او وهم يحزنون ، كان يرى" المسيرات "الجنائزية النائحة وهي تندفع في مشيتها كأن افرادها ابطال الهرولة أما العمال فيركضون طوال النهار في وسط اتربة مليئة بالأنقاض يجرون عربات مليئة بالجلود المجففة.
الزمن حينذاك هو عشرينات القرن الماضي، وكانت عدن حينها مستعمرة بريطانية .. تدار من منزل بني من المكعبات السوداء ( من احجار جبال عدن )، هذه الدار التي كانت تمارس سلطة فيما بين السويس وكينيا أكثر من سلطة اي وزارة اوروبية، ويقف على رأس الإدارة انجليزي سماه بول نيزان بالمستر (سي)، انه يمتلك سطوة واسعة تجعل من يعرفونه لا يقوون على النوم بدون ان تنسل فكرة عنه إلى العقل الباطني .. بيده ثلاثة أرباع الناس الذين وهبوا وفرة الاحساس بأهميتهم ولا يملكون ما يملك : عناوين برقية في بومباي ونيويورك ومرسيليا ولندن . ان ارادته بادية على مستقبل مصانع الدباغة والتجارة العالمية وباسمه يحكم الوكلاء في موانئ البحر الاحمر ومدن وأسواق الحبشة القروسطية واسمه كلمة المرور حتى مدينة صنعاء.
كما تعرف بول نيزان على نمط آخر من الشخصيات الانجليزية ، على رقيب في الجيش البريطاني ، امضى في عدن اربعين سنة ، وقد انحط في نظر الانجليز الى درجة تدخين التبغ المحلي وارتداء الفوطة والعمل كاتبا عموميا للعرب في دكانه للتحف القديمة في الاسبلانيد في كريتر .. وعندما يقبل الليل فانه يقضيه بشرب الكحول حتى الثمالة خوفا من الجنون وحاميا نفسه من هجماته بالخمر . لقد رفضت السلطات العسكرية حقه في المشاركة في الحرب الانجليزية التركية الكوميدية حسب تعبير بول نيزان والتي جرت حول عدن وليس امامه الا أن يجلس أمام بوابة دكانه يتطلع الى نهر صغير من الملل يجري أمامه ولا ينضب .
انه الملل نفسه ، الذي احسه بول نيزان وهو يسود المدينة .لقد كانوا يركضون تحت ضربات سوط لم يشاهدوه ، كانوا ضحايا ذلك الترتيب الرهيب الذي اسمه : الروتين اليومي. وفي كل يوم من ايام عدن التي يحددها إيقاع الشمس ، وبعد ان تطول الظلال مثل جذوع الاشجار في فترة ما بعد الظهيرة ، يتجمع الاهالي حول ملعب كرة القدم ويختلط الهنود من كل طبقة والسود من الساحل الافريقي بمشاة الكتيبة البنجابية وهي تعزف الموسيقى وامام الكنيسة يتدرب بعض من رجال المدفعية والشباب الهنود على لعبة الكريكيت ويمر الرهبان من الإرسالية الإيطالية بالقرب منهم وهم يرتدون عفارات قطنية بيضاء واحذية ثقيلة سوداء وتكون السيارات متجهة الى اماكن حيث الماء والحديقة في واحة الشيخ عثمان وخليج الصيادين وجولدمور حيث تسبح نساء المستعمرة من البيض ...تلك كانت ساعات الهدئة القليلة لأناس كانوا يموتون بالبورصة في خدمة الرأسمال المجهول الهوية على حد تعبير بول نيزان .
4- لم يغادر بول نيزان عدن أثناء اقامته فيها إلا باتجاه لحج وجيبوتي ... في لحج هاله ان يرى تلك الوجوه الشاحبة في منطقة مليئة بأشجار النخيل والجوافة والباباي والرمان والموز وتغطيها المسطحات الخضراء مما حدا به ان يقول "سيكون من المستحيل العثور على اناس محطمين أكثر من رعايا سلطان لحج " واردف قائلا " ايها الشرق ...مرة اخرى لا اجد في ظلال نخيلك المحبب كثيرا للشعراء سوى مزيد من البؤس الانساني "... وفي جيبوتي يكتشف بول نيزان ان الحياة فيها هي ذات الحياة في عدن ولكنها أكثر صخبا في اجوائها بصيحات اوروبا الجنوبية كاليونانيين والفرنسيين والايطاليين. هناك في عدن النوادي مغلقة ولايمكنك ان تنظر من خلال النوافذ وترى ذلك الذي يجري بداخلها اما في جيبوتي فتجد المقاهي والرجال يتحدثون عن النساء في حي الضوء الاحمر حيث تنطلق الفتيات في جنح الظلام من كل باب مثل مجنونات تحررن من سحر أبقاهن في الظلام ويقفزن امام السيارة المضاءة مصابيحها ممسكات بالأيدي ومناديات لبعضهن البعض بأصوات المغنيات الحادة ..انهن فتيات طويلات القامة وصغيرات جدا وبشرتهن المزيتة تلمع في ضوء أنوار السيارة ،وليس عليك كما يقول بول نيزان الا ان ترحل من هنا او تترك نفسك تتعرض للإمتصاص وتغرق في موجات حب جارف في ليل حار .
5 - يخلص بول نيزان الى انه انما سافر بعيدا فقط ليعود في الأخير إلى الغصن الذي اخافه كثيرا ، لقد وقف على الظلال المرعبة نفسها والتي كان قد هرب منها. يقول بول نيزان " تلك هي جائزة النزول في ميناء تلو الميناء ، هناك نوع فعال من السفر وهو السفر إلى الناس، وهذا ما كان يجب علي أن اعرفه ، والنهاية الطبيعية للسفر هي العودة وكل قيمة السفر تكمن في يومه الأخير"
لقد اصبح يفكر في اوروبا بطريقة مغايرة ؛ ليست اوروبا جثة هامدة ، انها جذع شجرة باتت لها جذور عرضية فيما حولها مثل شجرة تين البنغال، لابد من القضاء على الجذع اولا، لأن الجميع يموتون تحت ظلال اوراقه.
يقول بول نيزان " لقد علمتني عدن أن علي ان افهم كل شيء في بلدي الأصل " ويتساءل "هل كان علي ان اتوجه الى عدن لأكتشف باريس ، هناك كثيرون قد ابصروها وهم يتطلعون الى اعماق نهر السين " ومع ذلك يقول بول نيزان " لست بآسف ، لان هذه الحقائق واجهتني وجها لوجه وكشفت لي من خلال ضوء باهر يجعلني موقنا بانني لن افقدها ابدا "... هكذا سجل لنا بول نيزان من خلال كتابه "عدن،العربية" وقائع رحلته من باريس الى عدن وانطباعاته التي بمكن النظر اليها على انها وثيقة أدبية هامة رصدت الحياة في عدن في فترة مبكرة من القرن المنصرم .
عدن العربية
بول نيزان
ترجمة : بشير خان
مراجعة وتقديم :سعدي يوسف
دار النشر : دار الهمداني للطباعة والنشر ، المعلا - عدن
عدد الصفحات : 123