التسول عبر تقنية الفيديو
د. عيدروس النقيب
- القرصنة ليست دعماً للقضية الفلسطينية
- القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم(1)
- لحظات في حضرة اللواء الزبيدي
- بين عبد الملك ومعين عبد الملك
شهد يوم الأربعاء الماضي (16/مارس/2022م) انعقاد مؤتمر المانحين لليمن برعاية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرس وبدعوة دولتي سويسرا والسويد، وقد عقد هذا المؤتمر عبر تقنية الفيديو، وشارك فيه أكثر من 36 جهة حكومية ومنظمة إقليمية ودولية وبلغت حصيلة المنح المقدمة مليار وثلاثمائة مليون دولار أي حوالي ربع المنح المتوقعة وهي أربعة مليارات وثلاثمائة مليون دولار.
في مجلس النواب كنت وبعض الزملاء نسميها مؤتمرات التسول، فكل ما في الأمر أن مندوب اليمن وهو في الغالب رئيس الوزراء يذهب إلى المؤتمر ويلقي في الحاضرين كلمة مؤثرة يشكو فيها من المصاعب المالية والاقتصادية والفقر والمجاعة ومصاعب التنمية ويضيف إليها مجموعة من القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب والأهمية الاستراتيجية لموقع البلاد وتأثير ذلك على الممرات الملاحية الدولية وغير ذلك ، فيبدأ ممثلو البلدان المشاركة في التحدث وكل ممثل يشير إلى المبلغ الذي ستساهم به دولته ويخرج المجتمعون بحصيلة من المليارات لا تليها أية مساءلة عن مصير تلك المليارات ولا أين تذهب ولا في ما صُرِفَت.
والآن سيقفز واحد من مروجي التسول ليقنعنا بأن معظم المبالغ تقدم على شكل مشاريع أو هبات عينية (تكنولوجيا، أو آليات ومركبات أو مواد دوائية أو غذائية وما إلى ذلك) لكن حتى هذه لا يمكن لأحد نفي إنها تسول والأهم من هذا أن مصيرها يمضي مجهولاً بلا مساءلة ولا محاسبة لا من السلطات الرقابية والنيابية في البلد (هذا عند ما كان لدى اليمن ما يشبه الدولة) ولا من قبل المانحين الذين يتبرعون بمئات الملايين دون أن يعلموا إلى أين تذهب.
وهكذا فليس الفرق بين ذلك المتسول الذي يفرش عمامته في المسجد ليجمع له المصلون ما تيسر ثم يذهب ليشتري بها حاجات لأولاده، وقد يسخرها لشراء الممنوعات والمحرمات، . . . أقول ليس الفرق بين هذا التسول وبين مؤتمرات المانحين لليمن سوى أن الأخيرة تشترك في فعالياتها دول غنية ومنظمات دولية ويسبقها تنسيق ورعاية واتصالات وحملات دعائية وانتزاع ضمانات مسبقة من بعض الدول والمنظمات المانحة وغير ذلك مما لا يستطيع متسول الجامع أن يفعله.
وعموما فقد جرت العادة في كل المؤتمرات السابقة أن تتحمل دول مجلس التعاون الخليجي النصيب الأكبر، من العطاءات بحيث تقدم ما يفوق نصف المنح وأكثر منها وتستكمل بقية الدول والمنظمات ما بقي من المبالغ الممنوحة.
يمكن الحديث كثيراً عن مؤتمرات المانحين ومصير حصيلتها البالغة عشرات المليارات، التي لم يلمس المواطن اليمني لها من أثر، لكن ما يلفت الانتباه في المؤتمرات الأخيرة أمران:
الاول تراجع المنح ليصل في المؤتمر الأخير إلى قرابة رُبُع المبالغ المتوقعة.
والثاني امتناع دول الخليج الرئيسية المانحة (السعودية والإمارات وقطر) وهي التي كانت إلى جانب دولة الكويت، في كل المؤتمرات تمثل العمود الفقري لكل المنح المعتمدة.
وهنا يبرز السؤال: لماذا فشل المؤتمر الاخير؟
ولماذا امتنعت الدول الخليجية الشقيقة الثلاث عن المشاركة في المنح؟
فأما لماذا فشل المؤتمر فالجواب يمكن في نص السؤال الثاني، لأنه بدون مشاركة الدول الخليجية لا يمكن الرهان على حصول المعجزة التي خطط القادة اليمنيون لحصولها .
وأما لماذا امتنعت دول الخليج الشقيقة الثلاث عن المساهمة في المنح التي توقعها قادة السلطة الشرعية فالحديث يطول في الأمر لكننا نشير باختصار إلى الأسباب الآتية:
1. إن الدول الخليجية الشقيقة هي الأكثر دراية بطبيعة نهج وسياسات نظام الحكم في اليمن، قبل هجرة السلطة (الشرعية) الحاكمة وبعدها، وقد بين حديث وزير الخارجية السعودي أن السعودية قدمت ١٩ مليار دولار لليمن، بَيَّن حقيقة أن هذه المنح المجانية لا تصل إلى الشعب ولا يلمس أو يرى أو يشم المستهدفون لها أي طعم أو لون أو رائحة، فالأشقاء يعلمون أن كل المنح والإعانات والهبات وحتى الإكراميات التي يقدمونها يستحوذ عليها علية القوم من كبار الفاسدين الحكوميين.
2. إن الدول المانحة ليست جمعيات خيرية تقدم الصدقات للمتسولين، بل هي دول ومنظمات لا تقدم الأموال إلا وهي تنتظر نتائج تنعكس على حياة الناس المستهدفين من خلال محاربة الفقر أو تحسين الخدمات أو بناء مشاريع تنموية أو امتصاص البطالة، لكن عندما تدفع دولةٌ من الدول المليارات ثم ترى أنه لا طريق عُبِّد ولا مرتبات سُلِّمت ولا كهرباء اشتغلت ولا وقود أو مياه شرب توفرت ولا فساد حورب ولا أمن وُجِد، ولا مسؤول يحضر ليؤدي مهماته في مقر وزارته، فإن استمرارها في تقديم الأموال لا يعني سوى تكريس لتلك الأوضاع المعوجَّة والتي تزداد اعوجاجاً كلما ازدادت الهبات والمنح والإعانات.
3. إن الأشقاء في دول الخليج يعلمون أن معظم المنح والهبات تسخر للمصاريف الإدارية أو ما يسميه خبراء الموازنات بالباب الأول (الأجور والمرتبات وما في حكمها) ويعلم الجميع وباعتراف مسؤولين حكوميين بأن سلطة الشرعية قد (كتبت) أي استوعبت وظائف جديدة بمئات الآلاف ومعظمها أسماء وهمية كما اعترف وزير الدفاع، وهناك آلاف الدبلوماسيين الجدد من الصبية الذين ألحقهم آباؤهم أو أقرباؤهم أو أزواجهم بالعمل الدبلوماسي ممن لم يكملوا الثانوية العامة وبعضهم لم يكمل العشرين من عمره، وكل هؤلاء يتقاضون مرتباتهم بآلاف الدولارات، ما يعني أن الجزء الأكبر من المنح المفترضة سيذهب في تلك الطاحونة المهولة من الفساد المقونن.
4. يعرف الأشقاء في الدول الخليجية الثلاث وبقية دول الخليج الشقيقة أن حالة اليمن فيها من السريالية والتراجوكوميدية ما يفوق التصور، فهناك طرفان يتحاربان أحدهما نازح يمارس فساده في الخارج وهو من يشرف على عمليات (التسول) ويدير محاصيلها وهناك طرف لا يقل عنه فسادا وطغيانا، يتحكم في أراضي وسكان الجمهورية العربية اليمنية (السابقة)، وهناك سكان وأراضي يفترض أنها محررة لكن هؤلاء يواجهون حربا من الطرفين المتحاربين فلا الشرعية معنية بمعاناتهم أو كفت عن حروب التجويع والخدمات التي تمارسها ضدهم منذ ثمان سنوات ولا الحوثيين كفوا عن شن الحروب الاستنزافية عليهم عبر مناطق التماس بين الجمهوريتين السابقتين، وهؤلاء السكان (بطبيعة الحال) مستبعدون من الاستهداف بالمنح المفترض تحصيلها، . . . وفي هذا الحالة يحتار صاحب المنحة لم يسخر المبالغ التي سيتبرع بها، أللشرعيين النازحين أم للانقلابيين المتمترسين في عاصمة اليمن، أم للمواطنين المسحوقين الذين لا يمثلهم أحد في المؤتمرات موضوع الحديث،
الرهان على الهبات والإعانات في ظل سلطة أكلها الفساد من قمتها حتى أدني قاعدتها، وفوق هذا هي خارج البلد ولا تستطيع توفير ساعة كهرباء متواصلة أو سيارة لوري لجمع القمامة من الشوارع، هو كالرهان على السراب الذي يظنه الضمآن ماء.
وهنا تكمن الإجابة على السؤال : لماذا فشل مؤتمر المانحين الأخير؟؟