القضية الجنوبية ليست قضية أيديولوجية

لم تثِر قضية سياسية يمنية أو عربية (وربما عالمية) من الجدل مثلما أثارت وتثير القضية الجنوبية، منذ نهاية حرب غزو الجنوب الأولى في العام 1994م، رغم وضوح القضية وانجلاء معالمها وتفاصيلها لكل ذي عينين، منذ اليوم الأول.
لا يحتاج الأمر إلى التذكير أن ملخص القضية يتمثل في فشل محاولة توحيد دولتين شقيقتين مستقلتين ذاتي سيادة طوعيا، وتحول التوحيد الطوعي إلى غزو إحدى الدولتين للأخرى واستبعاد أبنائها واحتلال أرضها والعبث بمواردها وخيراتها من قبل الأقلية المنتصرة، مما نقل العلاقة بين الطرفين من شراكة وطنية استهدفت النهوض والتقدم لشعبي البلدين وتحقيق اندماج إيجابي يسمو بالشعبين إلى مصافات أعلى وأرقى من التقدم والنهوض والتنمية والكرامة الإنسانية، إلى مآلات يعلم الجميع أين وصلت بالشعبين من انهيار وفشل يصعب العثور على مثيل لهما في كل العالم، كل ذلك بسبب إصرار البعض على أن الفشل هو نجاح وأن الهزيمة هي مكسب وأن الآلام والتجويع والإفقار هي منجزات وطنية وأن السلب والنهب والإقصاء يعزز "اللحمة الوطنية".

لنعد إلى جوهر القضية الجنوبية التي ترتبط بما أنتجته حربا 1994م و2015م من مآسي ودمار وشروخ اجتماعية ونفسية وجسدية ومادية لا يمكن معالجتها على مدى عقود من الزمن إن لم نقل أكثر، وهي مآسي تجعل كل من يتحدث عن "وحدة اليمنيين" يشعر بالخجل والانكسار (لذلك لجأوا إلى خرافة الأقاليم البائسة) لأن من يتحدث عن (الوحدة) يعلم أنه يتحدث عن فانتازيا لا وجود لها إلا في مخيلات بعض السياسيين الذين توقفوا عند مطلع التسعينات ولم يطوروا لدى أنفسهم ملكة التفكير الواقعي ولم يستلهموا أي متغير من تلك العواصف التي جرت خلال عقدين ونيف مذ ذاك.

يلجأ الكثير من السياسيين (من أمراء الحروب وتجار الدين) إلى التمسح بالشعارات الثورجية والقومجية والدينية (وهم أبعد ما يكونون عنها)، كالقول بأن (وحدة اليمنيين هي صمام أمان المستقبل) والبعض يبالغ فيقول أنها (مقدمة لوحدة الأمة العربية) بينما يحدثنا البعض عن الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، وكأن مسلمي إندونيسيا سيدخلون جهنم لأنهم لم يتحدوا مع مسلمي موريتانيا، أو السودان أو الخليج أو حتى ماليزيا المجاورة، بينما كل هذه الشعارات لا تخفي وراءها سوى مضمون آيديولوجي يتكثف على الأرض في ما جناه ويجنيه هؤلاء وأسيادهم من مكاسب حولتهم بين عشية وضحاها من معدمين أو أصحاب أكشاك إلى مليارديرات وملتي مليارديرات.

وباختصار شديد فإننا عندما نتحدث عن القضية الجنوبية لا نتحدث عن أي شعار آيديولوجي أو نزعات دوغمائية، بل نتحدث بكل بساطة عن تجربة فشلت ويقتضي الأمر تصحيح ما ترتب عليها من كوارث والعودة إلى الوضع الطبيعي الذي كان عليه الشعبان في العام 1990، وترك كل شعب ليختار طريقة تطوره بما يتناسب وظروفه وعاداته وتقاليده وثقافته وتراثه التاريخي وتطلعات أبنائه.

وبهذد المناسبة فإن استعادة الشعب الجنوبي لدولته إنما تعني استعادة الشعب الشمالي لدولته التي يفترض أنها ذابت في الجمهورية اليمنية وتسليمها أمرها لمواطنيها، خصوصا وأن الكثير من الأشقاء الشماليين يتحججون بأن الجنوبيين هم من يحكم كل اليمن.
وأخيرا إن استعادة الشعبين لدولتيهما هو ث مصلحة عليا ومكسب تاريخي لصالح الشعبين في الشمال والجنوب على السواء وليس فقط مصلحة جنوبية، ولا أدري لماذا يصر بعض الأشقاء الشماليين أن فك الارتباط وتقرير مصير الشعبين هو تمزيق لليمن الذي لا يمكن أن يتمزق أكثر مما مزقه المهووسون والأنانيون السياسيون والمنظرون الفاشلون وتجار السياسة والحروب.