سهيلة (ابنة العولمة 00,03)

لا أذكر بالتحديد متى شاهدت أول مقطع فيديو لابنة منتصف العقد الثالث من العمر، سهيلة البناء، اليمنية التي تنتمي للحالمة تعز، كانت هي نجمة نقاش مع شباب وشابات من كوريا، حيث تدرس العلوم السياسية والعلاقات الدولية وتحلم بالعمل في المنظمات الدولية، والحقيقة أن حضورها المتميز ولباقتها يعطيانها الحق أن تحلم بأكثر من ذلك.. دار في خاطري، ساعتها، كم لدينا من النطيحة والمتردية وما أكل السبع من أولئك الذين حصلوا على منح دراسية بالمحاباة، لم نسمع عنهم إلا ما لا يسر، وفي أحسن الأحوال أخبار صرف مخصصاتهم المالية.

شاهدت بعد ذلك مقطع فيديو لسهيلة البناء على موقع «العربية نت» فدفعني الفضول للذهاب لليوتيوب لأجد لها كثيرا من المقاطع التي جعلت من هذه الشابة نجمة تعدى صوتها حدود كوريا واليمن.
في كتابه (العالم مسطح) يقول الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان إن العالم مر بثلاثة أنماط من العولمة: عولمة الأوطان (00,01) وعولمة الشركات (00,02) وعولمة الأفراد (00,03).

تجلت عولمة الأوطان (00,01) خلال سنوات صراع القطبين، أعقبتها الشركات العابرة للحدود متعددة الجنسيات (00,02)، وأصبحنا اليوم في زمن العولمة (00,03) بفعل وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت فردا في قرية نائية يمكن أن يعرف ناشط بيئي أو مدافع عن حقوق الحيوان أو حتى خبير طبخ أو مغن أو محترف رياضي أو نجم (سوشل ميديا)، ولا يعرف أسماء أعضاء حكومة بلده، وربما يعرف عن (البرشا والريال) ما لا يعرفه عن أندية بلده، ويهتم بالانتخابات في أمريكا ولا يعرف من يحكم بلده.. بجملة أخرى، أصبح الفرد يغزو العالم ويؤثر فيه ويتأثر به دون أن يغادر سرير نومه.
بفعل العولمة (00,03) يمكن للفرد أن يكون وسيلة للتعريف بوطن، فربما هناك من عرف اليمن من خلال سهيلة البناء، هذه الشابة التي دخلت إلى العولمة من نافذة غير نافذة (المغنواتية) وما شابهها، حيث يكون الفرد أكثر شهرة من وطنه.

كثير منا يستخدم وسائل العصر التي تستخدمها سهيلة، لكننا نستخدمها للإساءة لبعضنا في الغالب، لا ندرك أننا نبين للخصوم نقاط ضعفنا، ولا ندرك أن سطوة هذه الوسائل يمكن أن تكون طريقنا لنوصل ما نريده لخارج حدودنا، ومن يخالفني الرأي فليرجع إلى حوارات أبناء الجنوب على وجه الخصوص، بمن فيهم النخب.

آخر من استعار مني كتاب (العالم مسطح) كان صديق انتقل إلى جوار ربه وهو ينتظر حلمه بوطن نموذجي، كنت أقول له لن يأتي الوطن النموذجي إلا بمواطنين نموذجيين يعرفون أهمية أن نكون في وطن نموذجي، مدينة نموذجية، شارع نموذجي.. نحن فقدنا كثيرا من القيم والفضائل النبيلة التي تجعل أيا منا نموذجيّاً، فقدنا فضيلة نجدة الملهوف ونصرة المظلوم، فقدنا فضيلة العطف على بعضنا، فقدنا فضيلة الغيرة على جمال مدينتنا وشواطئها ومتنفساتها، فقدنا فضيلة إحقاق الحق واحترام القانون والعرف، أصبحنا مجرد هياكل بشرية، منا من يلتهم أي شيء، حلال كان أم حرام، ومنا من يقف يتفرج بصمت.. فمن أين يأتي الوطن النموذجي يا صديقي؟! «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

نحن لا نستخدم وسائل العصر لإحياء الفضائل التي فقدناها، ولا نستخدمها لتعريف العالم بنا لندخل بها إلى المستقبل. واقع الحال أننا لا ندري هل سنكون في ذلكم المستقبل، هل سنكون في المتن أو على الهامش؟.. أغلب الظن أننا سنكون في الركن القصي من الهامش، لأننا لا نستخدم وسائل العصر للصعود وإنما نستخدمها لمزيد من الهبوط، وقد تصبح سهيلة البناء نموذجا (عولميا) يتيما.​