ماذا أبقوا لنا من الثلاثين من نوفمبر؟؟
د. عيدروس النقيب
- القرصنة ليست دعماً للقضية الفلسطينية
- القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم(1)
- لحظات في حضرة اللواء الزبيدي
- بين عبد الملك ومعين عبد الملك
كنا في تناولة سابقة قد قلنا أن ذكرى الثلاثين من نوفمبر ليست فقط ذكرى الانعتاق والحرية ورحيل الجيش البريطاني، بل إنها ذكرى للكثير من المعاني النبيلة والعظيمة التي جاء بها هذا الحدث التاريخي أبرزها يتمثل في توحيد الجنوب في دولة واحدة يتساوى فيها أبناؤها من مختلف المناطق والطبقات والمستويات، وهي ذكرى النجاحات المنقطعة النظير التي كانت تلبي احتياجات ومصالح وتطلعات كل المواطنين الجنوبيين، والتي شملت ميادين عديدة أهمها التعليم ومحو الأمية المجانيين، الخدمات الطبية المجانية واستئصال العديد من الاوبئة، ثم البناء المؤسسي لجهاز الدولة الإداري والأمني والقضائي والخدمي ومن ثمَّ حضور الدولة في أقصى أقاصي الأرياف التي لم تعرف يوماً نظاماً ولا قانوناً ولا دولة، منذ قرون طويلة وانحسار الفقر والبطالة والجوع.
السؤال الذي ينتصب أمام كل ذي ذرة من الشعور باحترام التاريخ وحقائقه التي ليست دوما ممتعة هو: ماذا أبقى لنا من ائتمنناهم على شعبنا ومصيره ومستقبله من المعاني العظيمة لذكرى الاستقلال؟
هذا السؤال يتجنب إعلاميو الحكام التعرض له ليس لعجزهم عن الإجابة عليه، بل لمعرفتهم أن الإجابة غير المزيفة تصفع كل المداحين والمطبلين وعازفي أناشيد النفاق والتملق والتزييف، لذلك يهربون من الإجابة على هذا السؤال إلى البحث عن إدانات لثورة أوكتوبر وثقافة الاستقلال والحرية، التي لم تكن مسيرتهما خالية من المنعطفات والأخطاء البشرية التي تمثل متلازمةً معروفةً لكلِّ جهدٍ بشري.
للأسف الشديد هناك من يردد أن ثلاثين نوفمبر لم يكن استقلالا حقيقيا وإنما هو انتقال من استعمار إلى استعمار جديد، دون أن يفسر لنا ما هي ملامح هذا "الاستعمار الجديد" الذي يحدثنا عنه، ويكون الأمر مؤسفاً أن يصدر هذا عن أفراد يقدمون أنفسهم على إنهم قيادات للمستقبل الجنوبي، ولا يعلمون أنهم بهذا إنما يخسرون احترام آلاف الجنوبيين من ذوي الشهداء والجرحى والمناضلين الذين شاركوا في صناعة هذا الحدث العظيم، ومعهم الملايين ممن عاشوا أو ولدوا ونموا وترعرعوا في ظل الاستقلال الحقيقي وعرفوا ما معنى أن تكون حراً ولا ترتبط بنظام استعماري، وأن تكون ثمرة حريتك هي الشعور بالكرامة والعزة والأمان على المستقبل والتطلع إلى الأفضل والاطمئنان على توفر ضروريات الحياة وعدم خضوعها للمتغيرات الزمانية والمكانية ولا لأمزجة وأطماع القادة والحكام.
إننا نتفهم منطلقات بعض الذين تعرضوا للأذى بفعل بعض السياسات والتصرفات الخاطئة في بعض المحافظات، والتي انحصرت على شرائح معينة يعرف أفرادها أسباب تلك الأخطاء، وهي في كل الأحوال غير حميدة وبمعايير اليوم (المختلفة جذريا عن معايير زمن حصول تلك الأخطاء) تعتبر أخطاء فادحة، لكنها لا يمكن أن تسقط المعنى النبيل والسامي لمفهوم الثورة والاستقلال والحرية والكرامة التي أتت بها ثورة 14 أكتوبر واستقلال الثلاثين من نوفمبر العظيمين.
ولكي لا نتوه كثيراً في هذه الجزئيات نعود إلى السؤال الأساسي لهذه التناولة وهو: ماذا أبقى لنا الحكام (الجدد) من معاني الثلاثين من نوفمبر؟
لا تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى ذكاء خارق فمنذ العام 1994م تحول كل ما كانت الدولة تقدمه مجاناً إلى سلعةٍ تباع وتشترى كما تباع وتشترى المواد الغذائية والأحذية والكماليات، حيث دمرت الدولة وأجهزتها وغاب الأمن واضمحلت أجهزة العدل والقضاء وحلت العشوائية والهمجية محل الأجهزة المدنية ومحل القانون نفسه، والحديث يطول عن آلاف المشاهد التي يعيشها المواطن الجنوبي ويلمسها بيديه ويراها بعينيه ويكتوي بنيرانها بكل جوارحه وأحاسيسه ووعيه، ويكفي أن الجنوب استعاد عشرات الأوبئة والأمراض المزمنة التي اختفت أو كادت في عصر الاستقلال الحقيقي كالجذام والملاريا والدفتيريا والكوليرا وحمى الضنك وغيرها، ناهيك عن تفشي الفساد وتنمية ثقافة الطمع والأنانية، وانتشار الفقر والبطالة والمجاعة وفقدان الأمن وتغييب الهوية والثقافة ودعم وإسناد الجماعات الإرهابية من قبل القائمين على الحكم وأخيرا التفريط بالسيادة الوطنية ووضع البلد تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، وغير ذلك مما يعبر عن التخلي الكامل بل والمحاربة المتعمدة لمضامين الاستقلال الحقيقي والاكتفاء بالتغني بالمناسبة في الفعاليات والمهرجانات ومحاربة قيمها وأبعادها على أرض الواقع ومعاقبة صناع هذا التاريخ المجيد وتعذيب الملايين ممن عاشوا تلك اللحظات المشرقة من التاريخ الجنوبي وتغذوا ونموا وكبروا على منجزاتها التاريخية التي لن تمحوها قرونٌ من الزيف والتدليس والخداع.
ليس اليوم كالأمس ولن يكون الغد كاليوم ولا كالأمس.
و"إن غداً لناظره قريب"