منذ تحرير عدن في 2015م من الغزوين الأول والثاني وأنا ألاحظ ظاهرة تكررت فوق باصات الأجرة في عدن، وقد لاحظ غيري ذلك... مع أنني أتنقل عادة بسيارتي، وحين ينعدم البترول فليس أمامنا إلا هذه الباصات الكثيرة التي تتنازع الركاب. هذه الظاهرة أو الرسائل الشمالية تتمثل في أن أحد الركاب يتصل من فوق هذا الباص أو ذاك أو يستقبل مكالمة فيرفع صوته أثناء الاتصال بشكل ملحوظ ومتعمد بلهجة شمالية واضحة المعالم مع هنجمة ووعيد أحيانا للطرف الآخر الوهمي، بحيث يطول الاتصال ويرتفع الصوت حتى يلفت انتباه الركاب فيشعر اللبيب بافتعال المكالمة. ثم بعد ذلك تجد هذا الشخص يفتح نقاشا ويثير أسئلة أو يصدر تعليقات عند المرور بنقطة ما أو حين يرى صور بعض القادة الجنوبيين على الطريق أو يروج لخبر مشكوك بصحته وغير ذلك من الحركات.
هذا ما جعلني أستنتج أن هذه رسائل سياسية لقوى شمالية تفيد بأنهم لا يزالون موجودين في عدن بقوة وبأن البلاد بلادهم والحكم حكمهم. هذه الرسائل موجهة للرأي العام؛ فالباصات مكان يرتاده معظم أفراد المجتمع، وليس غريبا أن تلجأ الاستخبارات لمثل هذه الأساليب لمعرفة آراء الناس أو التأثير على الرأي العام. أما الإخوة الشماليون في عدن فقد كثروا وتكاثروا ولم تعد الظاهرة مقتصرة على الباصات، بل تجدها كثيرا في الأماكن العامة. وليست المشكلة في هذا الوجود بالرغم من الضغوطات المختلفة على المدينة، فنحن نقدر وضع البلاد هذه الأيام ومصالح الناس وأعمالهم ومتابعة رواتبهم وحالة النزوح؛ ولكن المشكلة تكمن في التربص الأمني والعسكري بعدن عاصمة الجنوب ومعقل قضيته العادلة وبوابته على العالم، فالقوى التي احتلت الجنوب منذ 1994م وهزمت عسكريا في 2015م لا تريد مغادرته لا سياسيا ولا ميدانيا، على الرغم من أنها تمر بضعف ورفض إقليمي ودولي، ولم تعلم هذه القوى أنها بتربصها بالجنوب لن تحقق أهدافها المريضة كما حققتها من قبل في غفلة من التاريخ، بل ستخسر الشمال نفسه وهي تسعى بجنون للسيطرة على الجنوب.
من هنا، فإن هذه القوى التي ضيعت الشمال والجنوب وقتلت الوحدة السلمية في مهدها باتت تزج بمخبيرها وجنودها في عدن وتكدسهم فيها لإثارة الفتن وخلق الفوضى؛ مستغلين الأوضاع الراهنة وسلطة الشرعية التي يتحكمون بها وتواطؤ بعض الجنوبيين الذين ربطوا مصيرهم بهذه القوى المعادية للجنوب نظرا لمصالحهم، ومستغلين كذلك طبيعة عدن وأهلها في تعاملهم الإنساني وإريحيتهم مع الناس وثقافة التعايش التي يتميز بها الجنوبيون. هذه القوى تأبى أن تترك المصالح المشروعة تنساب بين الناس في البلدين الجارين وتصر على ترسيخ ثقافة الكراهية التي يتهمون الجنوبيين بها وهم الذين يزرعونها في الشمال والجنوب.
من هنا، فإن دولة الجنوب قد بدأت تتشكل معالمها ومرتكزاتها برضى إقليمي ودولي واستعداد ذاتي داخلي، ولن يعرقل قيامها “مكالمات وهمية من فوق الباصات”.
ونقول للجنوبيين أصحاب القضية وقيادتهم المتمثلة بالمجلس الانتقالي: مكنوا أنفسكم في أرضكم وتمكنوا منها، فحيث لا تكونون يكون خصومكم... فهذا عامكم عام التمكين والنصر إن شاء الله تعالى.
نحن لا نهدد أحدا بقيام دولة الجنوب، ولكننا نبشر بذلك تبشيرا، فدولة الجنوب المرتقب قيامها ليست حربا على أحد، وأما عاصمتها “عدن” فلن ينقلها الجنوبيون إلى قارة أخرى فهي حيث شاء لها الله أن تكون، جغرافيا وتاريخيا، ولن تكون إلا خيرا وبركة وسلاما على أهلها وعلى الآخرين في الداخل والخارج لاسيما الذين يقدرون أهميتها ومكانتها ويحترمون طبيعتها المدنية والحضارية ويلتزمون قوانينها الحديثة.