همس اليراع
وداعاً آخر المترجمين المحترفين
د. عيدروس النقيب
- القرصنة ليست دعماً للقضية الفلسطينية
- القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم(1)
- لحظات في حضرة اللواء الزبيدي
- بين عبد الملك ومعين عبد الملك
كما تموت الأشجار المثمرة الباسقة المتسامقة بصمت، غاب المناضل بالكلمة ـ المفكر والكاتب والمترجم المبدع واليساري العتيق الأستاذ حامد جامع، وسط صخب يخص أشياء أخرى، ليس بينها الفكر والعدل والأمن والنظام والقانون والمواطنة التي ناضل من أجلها هو ورفاقه من الجيل الأول.
ارتبط اسم حامد جامع باليسار الثوري منذ مطلع الستينات، وحينما حان موعد ميلاد الدولة الوطنية الجنوبية الجديدة في عدن والجنوب اختار الانحياز إلى المفهوم الجديد للوطن، وطن العدل والمواطنة المتساوية العادلة والنظام والقانون.
وفي خضم الحوارات السياسية والحزبية حول شكل النظام وعلاقات القوى السياسية ببعضها، والذي تمخض عن قيام التنظيم السياسي الموحد، ثم الحزب الاشتراكي اليمني، اختار حامد جامع ومعه مجموعة من المثقفين اليساريين من بينهم المرحومين عمر الجاوي، د. عبد الرحمن عبد الله، القرشي عبد الرحيم سلام والدكتور السفير علي عبد الكريم وفارس سالم وآخرون، اختاروا الاستقلالية السياسية (الحزبية) ولم يمنعهم هذا من لعب دورهم الوطني المميز وأن يظلوا أعلاماً وطنية مميزة في مجال الفكر والثقافة والنقد السياسي البناء.
وبعد العام 1990م أشهر هؤلاء ومعهم عدد آخر من القادة والمثقفين والدبلوماسيين من الجنوب والشمال وعدد من القواعد المثقفة من الشباب حزب "التجمع الوحدوي اليمني" الذي اشتهر بمواقفه الوطنية واختياره لدولة المواطنة المتساوية والتعديدية السياسية الجادة والبناءة، وظل التجمع حزباً مشاكساً المشاكسة البناءة ومشاغباً المشاغبة الإيجابية، حتى بعد الحرب الظالمة على الجنوب في العام 1994م، وحتى وفاة الفقيد الجاوي الذي شكل غيابه فجوة لم يملأها الزمن ولا أخاله سيملأها بسهولة.
التقيت الأستاذ جامع عشرات المرات في مقر مجلة الحكمة، مقر اتحاد الأدباء والكتاب في عدن، وكنت ألتقيه في مقر مجلة قضايا العصر.
كان عموداً مهما في صحيفة التجمع الصادرة عن حزب التجمع، التي كانت فقيرة في عدد صفحاتها ومساحة الصفحة الواحدة، لكنها كانت غنية بمضمون منشوراتها وبأسماء من يكتبون فيها.
التقيت الأستاذ حامد ذات مرة بعد العام 1994م وأظنه في العام 1997م وكنا جميعا مبعدين عن أعمالنا، كنا نتحدث عن عوامل تراجع الصحافة، وسألته سؤالاً محدداً: كيف تمولون صحيفة التجمع؟
أجابني مبتسماً: ذات مرة التقى أحد المثقفين الشباب بالأستاذ عمر الجاوي في مدينة الجراحي بالحديدة (والجراحي هي من أفقر المدن اليمنية، وفيها ينتشر آلاف المتسولين) وعندما سأله (المثقف سأل الأستاذ الجاوي) ماذا تفعل هنا يا أستاذ عمر؟ أجاب: أنا أجمع تبرعات للحزب والصحيفة؟ وانفجرنا ضحكاً لهذا البارادوكس السياسي الذي تعيشه اليمن.
كان الأستاذ جامع مثقفا متواضعاً واسع الاطلاع، بسيطاً في مظهره، مبتسما حتى في حالة الألم، كثير العطاء، قليل الاستعراض والتباهي، ولديه عدد من الكتب المترجمة عن الإنجليزية منها "فيديل كاسترو والدين" و"مهمة في الجزيرة العربية" و"الموقع الأخير" وهو ترجمة لمذكرات أحد الضباط البريطانيين عن أيامه الأخيرة في عدن، وكان الفقيد المترجم والمصحح اللغوي الأول لكل من مجلة الحكمة وصحيفة التجمع، ولاحقا مجلة قضايا العصر وكانت مهارة في اللغة العربية تفوق مهارته في الإنجليزية التي افترض الكثيرون أنها لغته الأولى، ونقلا عن الزميل محمد الشيباني القيادي في التجمع، وفي اتحاد الأدباء فقد كان الأستاذ أحمد قاسم الرئيس السابق لاتحاد الأدباء والكتاب، وهو الشاعر والأديب واللغوي الممتاز يقول مازحاً: "نحن نتعلم اللغة العربية من هذا الصومالي".
التعازي الحارة والصادقة للزملاء د. عبد الله عوبل الأمين العام لحزب التجمع ونائبه د. السفير علي عبد الكريم، وكافة قيادات حزب التجمع وأعضائه.
رحم الله الأستاذ حامد جامع وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه ورفاقه وكل محبيه الصبر والسلوان.