همس اليراع

الفقيد صالح يحيى . . وتتوالى الأحزان

لم يتوقف مهرجان الفجائع بل ما يزال يواصل مفاجأتنا بفجيعة وراء أخرى كل يوم من فجائع الموت الذي يلازم بقاء الحياة على هذه الكوكب ولا يتوقف عن حصد الأرواح منذ الأزل وإلى الأبد ما دامت على الأرض حياة.
حمل لي يوم أمس خبراً محزناً جديداً عندما تلقيت بنأ وفاة صديقي وزميلي ورفيق مرحلة هامة ليست قصيرة من عمري وعمر تجربتي الشبابية والسياسية والمهنية، . . إنه الفقيد صالح يحيى عاطف الناشط الشبابي والحزبي ذات يوم والقائد الجماهيري والمدير التنفيذي والشخصية الاجتماعية المحبوبة لدى كل من عرفها أو لجأ إليها أو تعامل معها شريكاً أو رئيساً أو مرؤوساً.
كان ذلَك في العام 1970م عندما ولجنا عالم السياسة من بوابة العمل الطلابي، فقد كنت رئيسا للجنة الاتحادية ، للاتحاد الوطني لطلبة اليمن في مدرسة رخمة الابتدائية ( كان اسمها مدرسة خالد بن الوليد، ثم صارت مدرسة الشعلة، فمدرسة الشهيد يسلم حسين ولا أدري ماذا تسمى الآن)، فلقد جرى تأسيس أول حلقة تنظيمية طلابية ، وكانت الخلايا تتخذ مسميات متدرجة حتى تصل إلى العضوية العادية في تنظيم الجبهة القومية، وكان الفقيد صالح (له رحمة الله وغفرانه) قد سبقني في عضوية الجبهة القومية، كما علمت لاحقاً فقد كانت العضوية تتخذ طابع العمل السري، فلا أحد منا يعرف بقية الأعضاء ما عدا أعضاء حلقته أو خليته والمشرف التنظيمي عليها، لكننا كنا نلمس الموقف السياسي لكل فرد من خلال المركز الثقافي وعبر الأنشطة الجماهيرية والفعاليات الثقافية والرياضية وأعمال المبادرات في شق الطرقات وبناء المدارس ولاحقا الوحدة الصحية والعمل التعاوني الاستهلاكي والخدمي.
كان صالح شعلة من النشاط والحيوية والشجاعة والمبادرة والنجاح في تحمل المسؤولية كما كان بارعاً في النشاط الرياضي فقد كان لدى النادي الثقافي رخمة (الذي صار يعرف لاحقاً بالمركز الثقافي) فريق كرة قدم، وما أزال أتذكر كيف كان يقدم الاستعراضات الرائعة كمهاجم ناجح في الكثير من المباريات التي خاضها الفريق مع بعض الأندية المجاورة أو أثناء التدريبات.
في إطار المركز الثقافي تولى الفقيد عدداً من المسؤوليات كرئيس للجنة المبادرات ثم رئيس للجنة الشعبية، وهي لجنة لفض المنازعات بين الأهالي، ثم لاحقا اللجنة الفلاحية المتخصصة في معالجة نزاعات الأراضي الزراعية، وما يتصل بها من مساقي وأشجار مُعَمِّرة وغيرها، وعند نشوء لجان الدفاع الشعبي كان صالح أحد الفاعلين في تنظيمها والمشاركين النشطين في أعمالها، كما ساهم في أعمال المليشيا الشعبية التي كانت تتولى تدريب الشباب وتأهليهم لاستخدام السلاح والقيام بالمهمات الأمنية أولا، ثم المساهمة في عمليات الدفاع عن النظام الوطني الوليد عند ما تقتضي الضرورة.
كل هذه الأنشطة كانت تطوعية، فلم يتلقَّ المنخرطون فيها أية مكافأة من أي نوع كان، بل أن المناوبين في أعمال اللجان الشعبية (مثلاً) أو المدربين أو الحراسات الليلية ع٠لى المدرسة والسوق وفرع التعاونية كان عليهم أن يصطحبوا معهم طعامهم وسلاحهم الشخصي (بالنسبة للحراسات)، ولم يتذمر أحد أو يشكو حاجته أو تعبه أو حتى عدم قدرته على القيام بهذه المهمات، فقد كانت تمثل تحدياً وشرفاً وطنياً على كل حر أن يتولاه، وغالبا ما كان غير القادرين يشعرون بالحرج عندما يقدمون اعتذارهم عن هذه المهمات.
تنقل الفقيد في العديد من المهمات القيادية على صعيد مركز رُصُدْ (الذي تحول اليوم إلى ثلاث مديريات هي رُصُد، سرار وسبَّاح) حيث تولى مهمة سكرتير مساعد المأمور، (ومساعد المأمور هو الرئيس التنفيذي الأول في المركز) وليس مأمورا للشرطة كما في بعض البلدان، وتولى مهمة مدير بلدية رُصُد كما تولى إدارة المؤسسة المحلية للإنشاءت، وغيرها من المهمات الخدمية والتنفيذية ، وحيثما حلَّ كان الفقيد كتلة من الحيوية والنشاط والفعالية والشعور بالمسؤولية والنجاح مقابل الزهد والقناعة والعفة.
ومثلما جرى مع كل الكوادر الجنوبية نال الفقيد ما ناله رفاقه في عموم الجنوب بعد العام 1994م من التهميش والإقصاء والتجاهل والحرمان حتى من الحقوق القانونية كالترقية والمستحقات التراكمية كالعلاوة السنوية وما في حكمها.
ومع تغيير النظام المالي والإداري واستبداله بنظام الجمهورية العربية اليمنية فقد تثبتت مرتبات العاملين (المبعدين من أعمالهم) عند رقم معين، بينما كانت الأسعار ترتفع ومتطلبات الحياة تتسع ومقابلها ترتفع العلاوات والمستحقات والمكفآت والهبات الممنوحة للمعينين الجدد، أو ممن واصلوا ولاءهم لنظام 7/7 ناهيك عن تفشي الفساد وسياسات النهب والاستحواذ والاحتيال وسوء استغلال الوظيفة العامة، التي فتحت لها الأبواب على مصاريعها بعيداً عن أية مساءلة أو محاسبة، وربما بتشجيع متعمد من النظام لجرف أكبر عدد من الموظفين إلى وحل الرذيلة، بينما بقيت المستحقات المالية للكوادر والموظفين الجنوبيين المبعدين ومنهم فقيدما عليه رحمة الله، عند نقطة 1994م، وهي حرب معيشية غير معلنة ضد المستهدفين بالإبعاد والإقصاء من الكوادر الجنوبية وهم بمئات الآلاف.
كان بإمكان صالح أن يستبدل جلده السياسي ويلحق بركب نظام ما يعد 7/7 كما فعل كثيرون، وقد تحول بعضهم إلى مليونيرات في أشهر، بعد ما كان دخل البعض لا يزيد عن دخل فقيدنا ونظرائه، لكن صالح ومثله الكثيرون أبوا أن يبيعوا تاريخهم الحافل بالنزاهة والعفة والأمانة مقابل الانتقال إلى عالم الأثرياء، وفضلوا حياة البساطة (والحاجة أحيانا) على الثراء المغموس بالفساد والرذيلة وسوء السمعة، وقد بقي الفقيد محتفظا بموقعه القيادي في تنظيم الجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني في مديرية رُصُد حتى ما بعد العام 1994م.
بعد اندلاع الثورة الجنوبية السلمية في العام 2007م كان فقيدنا واحداً من المشاركين النشطاء في فعاليات الحراك السلمي الجنوبي ، ومثل رديفاً وسنداً للكثير من قادة أنشطة وفعاليات جمعيات المتقاعدين العسكريين والمدنيين على مستوى مديرية رصد كما ساهم في العديد من الفعاليات المركزية على صعيد محافظة أبين والعاصمة عدن.
الفقيد صالح يحيى عاطف أحد الأوجه البارزة فيدعم ومساندة القيادة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي في مديرية رصد وقد سخَّر تجربته القيادية لخدمة قضية المجلس وقضية الشعب الجنوبي، وأعلن انحيازه الكامل للقضية الجنوبية كما كان منذ ما قبل خمسة عقود، وعدم تردده في الانتماء إلى مطالب الجماهير الجنوبية العريضة الرافضة للتبعية والإقصا والوصاية، والطامحة إلى الحرية والكرامة وعودة الدولة الجنوبية كاملة السيادة على حدود العام 1990م
رحم الله الفقيد صالح يحيى عاطف وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وكل أهله وذويه ورفاقه ومحبيه الصبر والسلوان.
أصدق مشاعر الحزن والعزاء والمواساة اتقدم بها إلى أولاده وكل أفراد أسرته وجميع محبيه ورفاقه وأصدقائه وإلى الزملاء في القيادة المحلية للمجلس الانتقالي رصد وأبين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.