العسكريون الجنوبيون وبُلَدَاءُ السياسة

من منا لا يتذكر جمعيات المتقاعدين العسكريين الجنوبيين، وما أحدثته من زلزال سياسي في التاريخ الجنوبي الحديث ، ذلك الزلزل الذي حول مطالب هؤلاء العسكريين الجنوبيين إلى ثوة شعبية سلمية هدت أركان النظام وفعلت ما فعلته مما يعرفه القاصي والداني، ما لا يحتاج إلى الشرح والتفسير إلا من منطلق أن هذه الثورة قد كانت معملاً لإنتاج وغرس روح المقاومة ومن ثم هزيمة المشروع الانقلابي الحوثي وصد الغزو الثاني للجنوب في العام 2015م.

وإذا كان التاريخ لا يعيد نفسه إلا على شكل مأساة أو مهزلة، فإن ما يجري هذه الأيام مع العسكريين الجنوبيين المعتصمين في عدن منذ ما يقارب 100 يوم أمام مقر قوات التحالف العربي من مهازل إنما يؤكد أن قطبي الصراع منذ 7/7 وما قبلها ما يزالان قائمين وإن غابت أسماء أو انتقلت أسماء من هذا الطرف إلى ذاك أو العكس.

احتجاز مستحقات العسكريين الجنوبيين من قبل السلطة المهاجرة تكمن وراءه أسباب سياسية صرفة تتصل بسياسة العقاب الجماعي على الجنوب والجنوبيين جميعاً مدنيين وعسكريين، ولا علاقة له بالمصاعب المالية المتصلة بأي عجز في موازنة الدولة أو انعدام في المصادر أو اختلال في ميزان المدفوعات، ذلك إن الحكومة التي تدفع مرتبات آلاف السفراء ونوابهم ومساعديهم والقناصلة ونوابهم ومساعديهم والملحقين العسكريين والثقافيين والإعلاميين والتجاريين ونوابهم ومساعديهم، ناهيك عن الوزراء ونوابهم ووكلائهم والبرلمانيين والشورويين والموظفين الإداريين، ومعظمهم مجرد أسماء على الورق لا يقدمون شيئا بل ولا يعملون في مكان محدد وعنوان معروف، وكلهم يتقاضون مرتباتهم الشهرية بالدولار الأمريكي وفي أكثر الأحوال تواضعاً بالريال السعودي ، هذه الحكومة لا يمكن أن تكون عاجزة عن دفع مستحقات شهرية لعسكريين ورجال أمن هي أصلا مرصودة في موازنة الحكومة وبالعملة المحلية التي لا تحتاج إلى تحويلها إلى عملة صعبة عبر السوق السوداء أو العادية.

إذن هي جزء من الحرب المعلنة على الجنوب التي قال فيها قائلهم ذات يوم، أن تنمية الجنوب ستدفعه إلى الانفصال، بل هي استمرار لحرب 1994م التي ما تزال تتواصل بأدوات متعددة تشمل حروب التجويع والخدمات بل وحرب القصف والتدمير والتفجير والتفخيخ والاغتيال التي تشهدها العديد من المواقع والمدن في محافظات الجنوب.

وبالعودة إلى السؤال: من لا يتذكر ثورة المتقاعدين العسكريين الجنوبيين؟ نعم تلاميذ مدرسة الطغيان لا يتذكرون هذه الثورة، لأن ذاكرتهم مبرمجة على الاستبداد والقمع والسطو والمصادرة والاستعلاء ولا شأن لها بحقوق الناس القانونية، ولا بالحريات العامة وكل ما له صلة بآدمية الإنسان، كما إن نظرتهم إلى كلما هو جنوبي على إنه عدو تجعلهم يعتبرون دفع مستحقات هؤلاء الكوادر الذين أفنوا حياتهم في خدمة الوطن والدفاع عن حياضه وبرهنوا وطنيتهم ومهنيتهم في دحر العدوان والغزو والانقلاب، يعتبرونها صدقةً يحق لهم أن يوقفوها حينما يشاؤون.

وحدهم البلداء السياسييون لا يتعلمون ولم يتعلموا ولن يتعلموا من دروس التاريخ، ولا يقيمون وزناً لحقائق التاريخ والجغرافيا، ويظنون أن تجاهل الحقائق والتعالي عليها نوعٌ من الفطنة والذكاء السياسيين ، وأن ازدراء أصحاب الحق ومماطلتهم في حقهم سيجبر الأخيرين على الانصياع للظلم والطغيان، لكن أصحاب الحق المتشبثين به، لم يعد لديهم ما يخشون عليه إذا ما استبسلوا في التمسك بما يمنحهم إياه القانون وإذا ما صعدوا من نضالاتهم بالوسائل السلمية التي كانت على الدوام أقوى من أسواط الطغاة ودبابات الغزاة وقذائف العتاة.

سينتصر العسكريون الجنوبيون، وسيذهب الطغاة الجدد غير مأسوف عليهم إلى حيث ذهب أسلافهم ومعلموهم.
ولله عاقبة الأمور