العائشون في الماضي

كنا قد قلنا مرارا أن الثورة الجنوبية السلمية، كثورة ثانية بعد ثورة ١٤ أكتوبر الوطنية التحررية التي ما يزال الجنوبيون يعيشون أجواء الاحتفال بذكراها السابعة والخمسين، هذه الثورة الثانية قد حددت منذ بداياتها الأولى مسارا واضحاً لجنوب جديد يختلف عن جنوب ما قبل ١٩٦٧م وعن جنوب ما قبل ١٩٩٠م وما قبل ١٩٩٤م وبالتأكيد مختلف عن جنوب ما قبل ٢٠١٥م من باب أولى.

يصر البعض أن لا يقرأ اسم الجنوب إلا في الصورة التي يبغضها حتى وإن كان أنصار تلك الصورة يمثلون الغالبية العظمى من سكان الجنوب، وسأتجاوز عن أحجية "تمزيق الوطن اليمني الواحد" و"العمالة للخارج" و"تنفيذ المخطط الإماراتي" وغيرها من الترهات التي يصر البعض على ألا يذكر الجنوب وقضيته إلا مقترنا بها، سأتجاوز عنها لأن الزمن قد تجاوز وبرهن خطل التعلق بها وتسويقها كفزاعات في وجه الجنوب والجنوبيين، وسأتناول فزاعات أخرى يستدعيها بعض هؤلاء وأولائك لتبرير استمرار هيمنتهم على الجنوب والتحكم بمصير أبنائه.

من بين تلك الترهات لجوء الكثيرين من مروجي الفتن وزارعي البغضاء إلى استحضار التاريخ القريب للجنوب وتطعيمه بما في نفوسهم من شحناء وضغائن، بمجرد الحديث عن القضية الجنوبية واستعادة الجنوبيين لدولتهم.

فما إن يسمع أحدهم الحديث عن هذه القضية حتى يتقمص شيطان الترهيب، فيشرع في التخويف كالمجاذيب مولولين:

* هؤلاء هم من أمم الممتلكات وكمموا الافواه وصادروا الحريات، والغوا التعددية في السبعينات، وقمعوا العلماء،.و،.،.،.و،.،.، و، وغيرها من الاختراعات والتضخيمات الإعلامية المستمدة من مضبطات الامن الوطني ومخابرات جيش الجمهورية العربية اليمنية مع إضافة البهارات المضخمة ومساحيق البيكن باودر النافخة في تلك الفزاعات.

إن هذه الهذيانات لا تستحق النقاش ومحاولات الدحض، لولا ان بعض اليسطاء ينخدعون بها ويصدقونها تحت تأثير الخواء الذهني وغياب المعلومة التي تعرض لها جيل ما بعد ١٩٩٠م، وفي هذا السياق لا بد من إيضاح حقائق مهمة أكدناها مرارا ونعيد وتأكيدها من منطلق فهمنا للجنوب الجديد وأهم هذه الحقائق.

١. مرة أخرى نقول أن الجنوب الجديد الذي يتطلع إليه الجنوبيون لا بد ان يكون مختلفا عما قبله ومن المحتم أن يكون جديدا بما تعنيه كلمة جديد من مضمون، ومن يعتقد ان التاريخ يعيد نفسه ويكرر حلقاته إنما يكشف عن الجهل الذي يعاني منه، ونحن لسنا معنيين بكل الجهله الذين يتبوأون مواقع ليسوا مؤهلين لها ولا ماهرين في تصدرها.

٢. إن الجيل الذي يقود ثورة الجنوب ويتصدر مشهدها السياسي اليوم هم أبناء وأحفاد من قاوموا الاستعمار وأقاموا النظام الوطني في جنوب اليمن وهواجسهم واحلامهم وتطلعاتهم تختلف عن هواجس وأحلام وتطلعات أبائهم وأجدادهم نظرا لاختلاف معطيات المرحلة وتحدياتها وتشابكات علاقاتها الإقليمية والدولية، ولا تلتقي بها الا عند هاجس الحرية التي هي قاسم مشترك بين سائر البشر الأسوياء في كل الأزمنة والأمكنة.

٣. إن هذه الترهات التي يسوقها المفلسون وإعلامهم المفضوح، كان يمكن تصديقها من قبل بعض السُذَّج، لو أن أصحابها نجحوا في تقديم نموذج متفوق على النظام الجنوبي السابق، الذي يقر الجميع انه لم يكن ملائكياً، بعد غزوهم للجنوب وإسقاط ذلك النظام، أما وهم قد استبدلوا النظام بالفوضى والقانون بالأعراف البائدة المستوردة ، والتعليم بالتجهيل والأمن بنظام العصابات والأمان بالإرهاب والتطبيب بتجارة الادوية المغشوشة والمهربة و،.. . . و،. . . وغير ذلك الكثير فإنهم بخطابهم الأخرق هذا لا يخاطبون إلا أنفسهم وبعد انكشاف ثرواتهم المنهوبة وفسادهم الذي أزكم الأنوف.

٤. وبالعودة إلى أخطاء النظام الجنوبي في السبعينات التي يجري تضخيمها والنفخ فيها لإكسابها حجماً يفوق أضعاف حجمها الحقيقي بحيث لا يرى هؤلاء سواها في كل التاريخ الجنوبي نشير إلى أن القيادة الجنوبية كانت قد أعادت تقييم أسبابها وخلفياتها وانتقدتها وشرعت في معالجة بعضها، لولا الإجهاز على الدولة الجنوبية قبل إنجاز هذه المهمة لكن يبقى السؤال: لماذا لم تعالجوها خلال ثلاثين عاما من تسلطكم على الجنوب؟ ولماذا احتفظتم بها وبنتائجها حتى اللحظة الراهنة.

وبالمناسبة فإن قادة الثورة الجنوبية السلمية الراهنة لم يكن بعضهم قد خلق عند حصول تلك الأخطاء والبعض منهم متضررون من تلك الأخطاء، بينما يتربع أساطين وفلاسفة تلك المرحلة معكم وبين صفوفكم، بل وفي قيادة مشروعكم، فاسألوهم إن كانوا ينوون الاعتذار للشعب الجنوبي وسيكفون عن مواصلتها خصوصا وهم يعدون انفسهم لتصدر مشروعكم الاتحادي كافةً.

تخويف الجنوبيين بمشروع الجنوب الذي مهما صاحبته من الأخطاء يظل أفضل وأسمى وارقى من مشاريعكم الخائبة التي لم يجن منها الجنوبيون إلا الخراب والويلات، وتجارة الممنوعات، ونشر الفتن وتجارة السلاح واسترجاع الأوبئة والجهل والتفكك الوطني والاجتماعي وفساد الأخلاق وإفساد البيئتين الطبيعية والاجتماعية، هذا التخويف لا يختلف عن سلوك اللص الغني عندما يعاير الفقير الشريف بفقره ويتباهى هو بلصوصيته وثروته التي بناها بالنصب والاحتيال والغش.
ولله في خلقه شؤون