في وجه الشبه بين العقل والجامعة والمكتبة!

سأل التلميذ جون والده  ريتشارد: ما هو العقل يا أبي .. أريد أن ارأه ؟ فتحيّر الأب في إيجاد جواب مقنع لسؤال ولده الذكي، ولكنه فكّر بطريقة ملهمة وقال: غداً سأجيب عن سؤالك يا تلميذي النابه ! وفِي صباح اليوم التالي أصطحب الأب ابنه الى الجامعة وزار به معظم كلياتها ومكتباتها ومختبراتها وأقسامها وإدارتها وقاعاتها وساحاتها ومرافقها وشاهدا طلابها وطالباتها وأساتذتها وبعد أن أكملا الزيارة.

 

 سأل الأب ولده قائلاً: الآن قل لي يا جون ماهي الجامعة ؟ قال: الأبن بذهول لم أرها بعد يا أبتي! وأضاف كلما رأيته هو كليات ومكتبات  وطلاب وطالبات وقاعات وكراسي وطاولات ومعلمين ومعلمات وكل الأشياء التي شاهدناها معاً. فرد عليه والده ريتشارد برافو عليك يا جون الجامعة هي كل مارأيت والكل  أكبر من مجموع  أجزاء ومنها هنا جاء معنها في اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله،  وقد ظل معناها حصريا ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities )أي الجامعات.

 

إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها ومكوناتها فرادى.

من الواضح أن كلام ريتشارد الأب عن معنى الجامعة هو أكبر من قدرة تلميذه على استيعابه. ولكنه بهذه الطريقة البارعة استطاع أن يثير حالة من التفكير والتأمل الخلاق في ذهن طفله الصغير ممهدا بذلك السبيل لتفهيمه معنى العقل الذي يستحيل رؤيته بالعين المجردة، بوصفه مفهوما مجردا يعبر عن مجموعة من العناصر والفعاليات والعلاقات العضوية المترابطة في شبكة هائلة من العلاقة ( دماغ وخلايا عصبية وفصوص وشعيرات وحراس وإحساسات وانفعالات وادراك وذاكرة ووعي وخيال،واحلام ولغة وكلام ..الخ.

 

إذ يبدو العقل مثل الجامعة تماما بوصفه مجموعة عناصر ونشاطات وتفاعلات لملايين الخلايات والشعيرات العصبية الحية في جسم الإنسان العاقل، وكما أن الجامعة هي نتاج ترابط وتفاعل كل هذه الأجزاء التي تتكون منها فكذا هو العقل حصيلة ونتاج مجموع عناصره وعلاقاتها التفاعلية! وكما إنه يصعب تخيل العقل دون جهاز مركزي يغذي الجهاز العصبي بالتعليمات ويرسل ويستلم عبره الإشارات فكذلك يصعب تصور الجامعة دون مكتبة مركزية تغذي المكتبات الفرعية بالكليات بما تحتاجه من مصادر ومراجع ومجلات وحوليات وغير ذلك من الإصدارات المتجددة باستمرار.

 

 لا وجود للعقل بدون الحواس والذاكرة، ولا وجود للجامعة دون المكتبات المفعلة والفاعلة. إذتعد المكتبة بالنسبة للجامعة بمثابة الروح من الجسد بالنسبة للكائن الإنساني، ففيها كنوز العلم والمعرفة العلمية وخلاصة الحكمة والفكر والثقافة الإنسانية المتنامية منذ فجر التاريخ البشري، وقد ارتبط التعليم الجامعة بالمكتبات العلمية التخصصية منذ تأسيس المؤسسة الأكاديمية الحديثة قبل ثمانية قرون، 

إذ كانت المكتبة التخصصية هي اللبنة الأولى في بناء الكليات الجامعية، وكان الشرط الأول لتأسيس الكليات الأكاديمية هو توافر مجموعة من المصادر والمراجع العلمية في التخصص المطلوب.

 وهكذا تطورت الجامعة وتطورت معها المكتبات العلمية بحيث باتت تنقسم الى مجموعة من التخصصات والأجنحة المرتبة بحسب التخصصات العلمية التي تقوم الجامعة بتدريسها للطلاب في الكليات والأقسام العلمية.

وفِي سياق التنافس المحموم بين الجامعات المعاصرة، شهدت المكتبات الجامعية نقلة نوعية كبيرة بفضل التكنولوجيا الرقمية، إذ باتت معظم مكتبات الجامعات المركزية في كثير من مختلف الدول، هي مكتبات رقمية يمكن للطلاب والمعلمين زيارتها والدخول اليها وأخذ ما يحتاجون منها من مصادر ومراجع ومعلومات من الانترنت وهم في منازلهم أو في أي مكان كانوا وجامعة الاسكندرية خير مثال على ذلك.

 

تواردت الى ذهني تلك الخاطرة التي سبق وأن كتبتها في زمن مضى وأنا أتجول في رحاب مكتبة جامعة عدن المركزية في مدينة الشعب، وهي من الأماكن العزيزة على قلبي من زمان، إذ كنت حريصا على زيارتها بين الفينة والأخرى رغم بعدها عن سكني في كورنيش ساحل العشاق.

 

 صباح الأربعاء ذهبت الى هناك بغرض حضور اجتماع مجلس الجامعة الدوري. كنت أول الواصلين، فاغتنمت الفرصة للحديث مع السيدة الرائعة احلام مدهش مديرة المكتبة المركزية منذ عقدين من الزمن، وجدتها في صالة الاستقبال فحييتني وحييتها بعد أن تقطعت بنا السبل منذ خمس سنوات مضت بسبب الحرب.

 

سألتها عن الأحوال وعن المكتبة وكيف وقعت عليه اثناء الحرب؟ فأخبرتني بإن سلمت من النهب ولم يمسها اذاء أسعدني هذا فحمدت الله وشكرته على سلامة مكتبتنا المركزية التي لنا فيها ذكريات جميلة. ثم اصطحبتني في جولة سريعة في قاعاتها في الدور الثاني المرتبة بعناية ونظافة، دخلت قاعة الخوارزمي الواسعة ووجدتها كما عهدتها بموظفيها وموظفاتها الكرام الذين أعرفهم ويعرفوني وبينهم بعض طلابي وطالباتي الاعزاء، تبادلت معه السلام والتحية وتصفحت بعض الكتب، وانتقلت لزيارة قاعة ابن خلدون وفيها الدوريات والمجلات العلمية والصحف.

 

 وفِي الدور الأول قاعة كبيرة للاجتماعات تحوي الرسائل والأطاريح العلمية مخرجات الدراسات العليا في عموم كليات الجامعة. سألت مديرة المكتبة الأخت أحلام مدهش عن مشروع تطوير المكتبة، فابتسمت قائلة: الحرب التهمت كل المشاريع وسلامة الرأس فايدة، نحمد الى على نجاة المكتبة من الحرب والتخريب والحفاظ عليها كما كانت قبل الحرب هذا الجواب جعلني اعزف عن السؤال الذي كان يرودني بشأن مشروع تحديث وتأهيل المكتبة رقميا بما يجعلها متاحة في متناول الطلاب والطالبات والباحثين والباحثات عبر الشبكة العنكبوتية كما هو حال المكتبات المركزية للجامعات المجاورة.

 

وهكذا لازلت مكتبتنا المركزية تعمل بالطرق التقليدية في التصنيف والقراءة والاستعارة وكل شيء، ورغم بعدها الا أنني علمت أن عدد زوارها في بعض الأشهر يصل الى ٣٠٠ الى ٤٠٠ زائر. ويوجد في المكتبة طاقم وظيفي مكون من ٤٥ موظفا وموظفة. ويعملوا تحت ادارة المديرة القديرة كخلية نحل بسلاسة وانسجام وانضباط ونظام.

تمنيت لو أني مقيم بقرب المكتبة لكنت امضيت اكثر أوقاتي بين كنوزها العلمية المتنوعة، إذ تظم المكتبة عشرات الالف من الكتب في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية. وَمِمَّا لاحظته في المكتبة تخصيص اجنحة خاص للمكتبات الشخصية التي أوصى أصحابها من الأساتذة الراحلين إهداءها الى المكتبة المركزية بعد وفاتهم رحمة الله عليهم، وجدت جناح المرحوم عبدالله فاضل، والمرحوم سالم عمر بكير رئيس جامعة سابق والمرحوم محمد علي الشهاري، وسعدت بروية بعض لأجنحة تحمل اسماء بعض المثقفين الاحياء ومنهم الصديق العزيز سعيد محمد سعيد الذي انقطع تواصلنا منذ رحيل الاستاذ عبدالله فاضل فارع الذي كان يجمعنا في مكتبته العامرة بخور مكسر رحمه الله.

كانت فرصة سانحة لزيارة المكتبة التي عقد مجلس الجامعة اجتماعه الدوري فيها، ومن محاسن الصدف أن تتم الموافقة على ترقيتي العلمية الى الاستاذية في الاجتماع ذاته.

ختاما لا يسعني الا التقدم الى الاستاذ العزيز الدكتور الخضر ناصر لصور رئيس جامعة عدن  بالرجاء بان يولي المكتبة المركزية للجامعة ما تستحقه من دعم وتطوير وتأهيل يجعلها في مصاف العقل والذاكرة المتجددة باستمرار ومواكبة لكل جديد ومعاصر في مختلف فروع المعرفة العلمية من كتب ودوريات ومجلات وللأبد من التفكير الجدي بالبدء بتحويل المكتبة المركزية ومكتبات الكليات الى النظام الرقمي مع خالص تقديري واحترامي.