تجار الأفتراء

هم كثيرون يسوقون الأوهام ويروجون الافتراءات ويكذبون على متابعيهم وقرائهم والمستمعين إليهم ويدركون أنه قد لا يصدقهم أحد ، لكنهم من كثرة كذبهم يصدقون انفسهم ويتوهمون أن ترهاتهم هي القول الفصل في كل الحقيقة وكل حقيقة، وفي الأخير ليس مهما إن كانت ترهاتهم تلاقي لها سوقا أم لا، فالمهم أن يستحسنها دافعو (حق الأتعاب).
* كان آخر تلك الترهات ما أطل علينا به أحد الوزراء (الناجحين جداً في مهاجمة التحالف العربي والمجلس الانتقالي) من حديث مفاده أن حرب ١٩٩٤م لم تكن ضد الجنوب بل كانت ضد الحزب الاشتراكي ومؤسساته، وعندما وجد نفسه مضطراً لتناول المظالم التي تعرض لها الجنوب بعد ١٩٩٤م فقد راح يعزي أسباب كل تلك المظالم إلى علي عبد الله صالح وليس إلى حربه وسياساته ونهجه وحلفائه الذين يغازلهم الكاتب ويبرئهم من الحرب ونتائجها في منطق فلسفي عجيب يقوم على الفصل التعسفي بين السبب والنتيجة وبين الفعل والفاعل، طبعا بعد تجزئة هذا الفاعل وتحجيمه وتصغيره وحصره في فرد واحد واستبعاد السياسات والمؤسسات والتحالفات وإعفاء آلاف أو على الأقل مئات الأفراد ممن صنعوا تلك النتائج المأساوية لتلك الحرب اللعينة، ممن لا يزالون يتحدثون بقدسية عن تلك النتائج ولم يعبروا ولو لفظيا عن اعتذارهم لمشاركتهم عفاش كل تلك الجرائم طوال ربع قرن.
* ربما لم يكن حديث الرجل يستحق التوقف فما أكثر المثرثرين والمتقولين والمداحين والمطبلين ممن يبحثون عن استرضاء مراكز القوى والمال والقرار، لولا إن الامر يتعلق بحقائق تخص مصير الجنوب وأهله وتضحيات ابنائه ونضالاتهم الطويلة ومستقبلهم.
* يقيم الكاتب الجهبذ حججه على أن هناك ثقافة عنصرية (يقصد في الجنوب) تستهدف الشمال والشماليين، وهذه الثقافة لا وجود لها إلا في عقله الباطن وعقول أمثاله من العائشين على العدائيات والمزايدات والتنقل من أقصى المواقف تطرفاً إلى أقصى عكسها تفريطاً ووخنوعاً، وفي هذا السياق يأتي اعتذاره للشمال والشماليين منطقياً وواجبًا مستحقاً، أما الجنوبيون (بسوادهم الأعظم) فإنهم يعلمون أن ضحايا الظلم في الشمال هم بالملايين وأن لا علاقة لهم بما تعرض له الجنوب من مظالم على أيدي غزاة ١٩٩٤م وغزاة ٢٠١٥م باسثناء المخدوعين منهم ممن ساهموا في الغزوين اللعينين، وهم بمئات الآلاف، لكنهم ليسوا هم الشمال ولا يعبرون عن الشمال بأي حال من الأحوال، مثلما لا يعبر معالي (الوزير) الكاتب لا عن الجنوب ولا عن الجنوبيين.
* التعليق على ما تضمنه حديث الوزير ( الناجح جداً) يطول نظراً لما تضمن من أفخاخ ومحاولات الاستغفال والاستعباط والاستهزاء بعقول القراء، لكن يمكن التوقف عند ما أسماها (تحلل الجنوب لمكوناته الأولية ما قبل ١٩٦٧م) .
* حيث يتساءل معاليه مؤكدا عن اختلاف الجنوب عن جنوب ١٩٦٧م : "وإلا لماذا نرى الهويات المحلية قد أطلت مجددا برأسها ؟"، ولم يفوِّت على نفسه الإشارة " حتى إن الأحزمة الأمنية والنخب العسكرية وهي جيوش مناطقية قبلية، لا تعبر إلا عن مكونات الجنوب ما قبل الاستقلال".
* هذه الفقرة وحدها بحاجة إلى وقفة خاصة لما فيها من خلط عجيب بين الجهل والسطحية والتزييف والمغالطة والخداع، لكننا سنحاول تفكيكها بسرعة تجبنا للإطالة وتعريض القارئ الكريم للملل.
فأولا: انبعاث الهويات الصغيرة لا ينشأ اعتباطا لكن له أسبابه الموضوعية والذاتية وتتمثل الأسباب الموضوعية لهذه الظاهرة في الجنوب بشعور الناس بأن الدولة (إن كانت هناك دولة) التي انتجتها حرب ١٩٩٤م لا تعبر عنهم ولا تمثل حاضناً حياً وفاعلا لهويتهم وهو ما دفع الناس إلى اللجوء إلى معطيات التاريخ الذي لم يكن قد ابتعد عن ذاكرتهم، للبحث عن اية هويات تعبر عنهم ويحاولون من خلالها حماية حيواتهم ومصالحهم والتعبير عن انفسهم.
وثانيا: إن ظاهرة البحث عن الهويات الصغرى لم تنشأ مع قيام الحزام الامني والنخب العسكرية (كما اسماها) بل لقد ترافقت مباشرة مع قيام حكومة ٧/٧ التي لم تعبر إلا عن غزاة ١٩٩٤م (من الشماليين والجنوبيين على السواء) وهم الذين اتبعوا سياسة التفكيك المتعمد والمخطط والممنهج للجنوب والجنوبيين (وذلك واحد من الأسباب الذاتية) لما يسميه أخونا بالذهاب إلى المكونات الأولية.
وثالثا: تتجلى المغالطة الفجة في تصوير الحزام الامني والنخب المحلية (التي سماها بالعسكرية) بالعودة إلى جنوب ما قبل ٦٧م، وهو افتراء لا يعبر عن جهل بالحقائق فقط، بل عن تزييف متعمد لهذه الحقائق التي يعلمها الصغي. قبل الكبير والجاهل قبل المتعلم، حيث يعلم الجميع أن الحزام الأمني يضم في صفوفه أبناء أربع محافظات هي عدن وأبين ولحج والضالع ويعلم أكثر الناس جهلا أنه لم يكن يوجد أي مكون قبلي ولا مناطقي قبل الاستقلال اسمه (عدن وأبين والضالع ولحج) وإن هذه المناطق هي تعبيرات عن تكوينات حداثيية تعبر عن وحدات إدارية أنشئت عند ما كان في الجنوب دولة تحتضن الجميع وتعبر عن الجميع، وهو ما ينطبق على النخبة الحضرمية والشبوانية والمهرية والسقطرية ولست بحاجة إلى إيضاح أن ما يسميها معاليه (المكونات الأولية) لمحافظة مثل شبوة هي أكثر مما يصوره في محاولته فشبوة لم تكن قط عددا أوليا مثلما جميع الوحدات الإدارية من محافظات ومديريات ومراكز بل إن جميع تلك التكوينات هي اعداد مركبة تدخل في عددٍ مركبٍ كبير اسمه الجنوب .
* وأخيرا: لقد تغاضى الرجل عن كل كوارث حرب ١٩٩٤م على الجنوب ومنها تغذية النزاعات القبلية والعشائرية وإحياء الثارات التي دفنها الجنوبيون قبل خمسين سنة وراح يفتش في نشوء الحزام الامني والنخب الشبوانية والحضرمية والسقطرية والمهرية، ليرى فيها المنتج الوحيد لغياب الدولة وفشل اجهزتها في القيام بأبسط الوظائف والواجبات، ونسي أن هذه الاجهزة هي من يضبط الامن في مناطق انتشارها وهي من من هزم الجماعات الإرهابية وجماعات القتل والإجرام وما تزال تقوم بواجب وزارات الدولة الغائبة، كما نسي معاليه ما تحصده الأوبئة والجرائم والجماعات الإرهابية وغياب الخدمات والنزاعات القبلية من أرواح وما تريقه من دماء.
* كتاب السلطة (أي سلطة في الدنيا وفي أي مكان وفي أي زمان في الدنيا) يبحثون عن إيجابيات هذه السلطة مهما صغرت وتضخيمها ومحاولة إقناع البسطاء بأنها منجزات عظيمة تقدمها هذه السلطة لهم وهذا مستوى من مستويات التطبيل والمديح؛ لكن في بلادنا يتباهى كتاب السلطة بالفشل والإخفاق ويحاولون إقناع الناس بأنها منجزات عملاقة لم يسبق أحدٌ هذه السلطة في تقديمها للناس الذين لا يلمسون منها سوى الاختلال والاعتلال والوبال.