إيران في حقول ألغامها أخيرا

كان على مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي أن يتذكر العقوبات التي فُرضت على العراق ما بين عامي 1990 و2003 لكي لا يُعتبر حديثه عن أقسى عقوبات في التاريخ مجرد زلة لسان قد تدفع به إلى الاعتذار.

لا تسمح إنسانية المتضررين من عدوانية النظام الإيراني ورعونته السياسية بأن يتكرر في إيران ما حدث في العراق. فأن تفرض على النظام الإيراني عقوبات تحدّ من نشاطه العدواني هو شيء يجب الترحيب به تأكيدا لإرادة السلام وحق الشعوب في الاستقرار. أما أن تنال تلك العقوبات من كرامة الشعوب الإيرانية وتذلها، فهو شيء مختلف ينبغي عدم السماح بوقوعه احتراما لأرواح نصف مليون عراقي أزهقتها آلة حصار ظالم.

ليس أمرا مؤكدا أن إيران ستقع في القفص نفسه الذي وقع فيه العراق في وقت سابق. لا لما تميزت به السياسة الإيرانية من قدرة على المراوغة واللعب على الحبال والتناقض بين ما هو معلن وما هو خفي فحسب، بل وأيضا لأن التجربة العراقية المريرة لا تزال حاضرة في العقل السياسي الإيراني.

كانت إيران من أكثر الدول استفادة من الحصار الذي فُرض على العراق. فبسببه انفتحت أمام بضائعها الرديئة سوق واسعة لم تكن تحلم بها هي السوق العراقية، وحين غزت الولايات المتحدة العراق بعد أن تم تدميره اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا عن طريق الحصار، كانت إيران أول المستفيدين من ذلك الغزو.

لا أتوقع أن سياسيي إيران سينزلقون إلى الموقع الذي يكون فيه فرض الحصار عليهم هو الخيار الوحيد الذي يحظى برضا الغرب فيما تواجهه دول كثيرة بصمت مَن لا حجة لديه.

يمكن اعتبار خطاب بومبيو بمثابة إعلان حرب. وهو ما سيدفع الإيرانيين إلى النظر إلى الأمر برمته بطريقة جادة، بعيدة عن روح المكر والمماطلة والتسويف وتمييع الوقت والتمويه على حقيقة ما يفكرون فيه وما يقومون به. وهي الروح التي ظهرت أثناء مفاوضاتهم الماراثونية قبل توقيع الاتفاق النووي الذي مزقه الرئيس دونالد ترامب.

لن يكرر الإيرانيون في عصر ترامب ما فعلوه سابقا.

لقد صار واضحا أن الرئيس الأميركي إذا قال شيئا فعله. حقيقة تمثل علامة شؤم بالنسبة للسياسيين الإيرانيين. لذلك سيكون عليهم أن يتعاملوا بحذر مع حقل الألغام المفتوح أمامهم. لن يطلب أحد منهم القيام بتنظيف ذلك الحقل من ألغامه، غير أنهم سيقومون بذلك تعبيرا عن حسن نيتهم في مواجهة حُكم تم التوقيع عليه يقضي بإلحاق أقصى العقوبات بهم.

إيران التي تعود إلى المشهد السياسي العالمي هذه المرة بطريقة مختلفة سيكون عليها أن تتصرف بحذر، لم يعهده أحد منها. وهو ما أتوقعه في ظل شعور الإيرانيين أنفسهم بأن هناك مَن لن يتوانى عن ضرب مشروعهم النووي في حالة تهاونهم عن الاستجابة للشروط الأميركية.

ستترك الولايات المتحدة تلك المهمة لطرف ثالث، هو أكثر حماسة منها للقيام بها. ولأن إيران تدرك أن كل حروبها بالوكالة ضد ذلك الطرف الثالث لا يمكن أن تعوضها خسارة مشروعها النووي، فإنها ستركن تصريحات متهوريها النارية جانبا وتذعن للشروط الأميركية، مهما كانت صعبة. ما هو أصعب من ذلك الإذعان صار أشبه بالأمر الواقع.

فبعد أن كادت إيران تُنسى بسبب الفوضى التي تجتاح المنطقة، وصارت تصريحات زعمائها وعسكرييها عن هيمنتها على أربعة بلدان عربية لا تحرك ساكنا في عواصم القرار السياسي الدولي، ولم تعد صورة قاسم سليماني متنقلا بين دمشق وبغداد باعتباره ممثلا لسلطة انتداب لتزعج أحدا من صناع ذلك القرار، ها هي تُعاد إلى موقعها القديم جزءا من محور الشر حسب التصنيف الأميركي، بل هي اليوم تمثل الشر المطلق الذي يجب إزاحته.

كل هذا وغيره يعرفه الإيرانيون ولن يغيب عن بالهم، وهم يقومون بتنظيف حقل الألغام قبل أن يغادروا البلدان التي انتهكوا حرمتها واستباحوا سيادتها.

*كاتب عراقي