موسكو وعدن.. لحظة استقلال الجنوب العربي
هاني مسهور
- لحظة لإفاقة العقل اللبناني
- حتى لا تكون بيروت عدن أخرى
- من شيخان الحبشي إلى عيدروس الزبيدي .. الاستقلال يعنى الاستقلال
- تل أبيب بعد أرامكو.. الحوثي على رقعة الشطرنج
قد تكون اللحظة مواتية لميلاد استقلال ثان للجنوب العربي، فالتحولات الدولية تتيح الفرصة في حال تم استثمارها سياسيا، وتدفع بالجنوب للخروج من دوامة ثلاثة عقود من الفوضى السياسية بعد سقوط دولته، إثر تحولات مماثلة وقعت نهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي. بانهيار جدار برلين انتهى الاتحاد السوفيتي وطويت حقبة من التاريخ السياسي لتنفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وتظهر الأحادية القطبية التي بدورها كرست سياسات دولية صنعت توازناتها الخاصة، إلى أن نهض القيصر الروسي زاحفا صوب العاصمة الأوكرانية كييف.
ما بعد يوم الرابع والعشرين من فبراير 2022، التاريخ الذي أطلق فيه الرئيس فلاديمير بوتين عمليات الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية، لم يعد العالم كما كان من قبل، انتهى النظام العالمي الذي تسيّده العم سام، ودخل العالم حالة استقطابات سياسية حادة نتيجة للزلزال الذي ضرب هذا النظام. ولم يجد حلف الناتو، وهو الحلف الذي شكل البعد الجيوسياسي منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، مع قرارات الدولة الروسية غير حزمة عقوبات اقتصادية لوح بها لردع الكرملين.
الرئيس الأميركي جو بايدن لم يصدم أحدا عندما قال في تعليقه الأول على العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا إنه والسيدة الأولى في البيت الأبيض سيكتفيان بالصلاة والدعاء لإنقاذ أوكرانيا من زحف الجيش الأحمر.
ما حدث كان متوقعا ومنتظرا، فالرئيس بوتين هو أكثر العارفين بأن الناتو لن يخاطر برد عسكري مباشر قد يكلف أوروبا العودة إلى ما قبل 1945، ويدرك الرئيس الروسي أن واشنطن في ظل الحزب الديمقراطي تعيش انكفاء سياسيا هو استمرار لتنفيذ سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما وعقيدته التي رأت أن على الولايات المتحدة أن تنطوي على نفسها.
آن الأوان لتعود عدن عاصمة مستقلة لدولة جنوبية ذات وزن في شرق أوسط جديد يستعيد فيه العالم شيئا من توازنه السياسي
المعطيات الغربية كانت بالنسبة إلى الرئيس بوتين واضحة، إضافة إلى أن اللحظة كانت مواتية سياسيا لبدء الاستقطاب السياسي، وفقا لمعادلة الحاضر ولضرورات اللحظة الراهنة والمستقبل المنظور. تدوير الزوايا يقتضي البحث عن حلفاء، وإن كان ذلك في الدفاتر السوفيتية القديمة. قد يبدو ذلك من المبكر الحديث عنه، غير أن ذلك سيحدث مع التشكل السياسي الجديد، ومع التغير المتسارع في التحالفات الاقتصادية، على اعتبار أن أعضاء أوبك+ يحصدون أرباحا تدفع بطريقة ما لتشكيل قوى اقتصادية مضادة لقوى الرأسمالية التي هيمنت على الاقتصاد العالمي طويلا.
الأمر أشبه بزلزال ما أن يبدأ حتى يحدث تشكيلا جديدا نتيجة تحرك الصفائح الأرضية، وهو ما يحدث تماما بين موسكو والكتلة الغربية؛ الزلزال وقع، وتشكل النظام العالمي الجديد بات حقيقة مكتملة. والسؤال الآن، هل أن موسكو البوتينية مستعدة لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفيتي كإرث سياسي قابل لبناء التوازن مع الكتلة الغربية؟
الشرق الأوسط كان وسيبقى خط التماس، فلطالما كان السوفييت يشعرون بالدفء في المناطق الشرق أوسطية.
عدن أكثر مدن المنطقة، بل والعالم، انتظارا لمثل هذه التحولات في النظام الدولي، بعد أن دفعت ثمن تبعات انهيار جدار برلين، شأنها شأن يوغسلافيا السابقة. وإن كانت الحركة الوطنية الجنوبية باعثة لمفهومها الوطني في سياقها الذاتي للتحرر من احتلال نظام صنعاء الذي فرض سياسة الأمر الواقع في حرب صيف العام 1994. وعلى امتداد ثلاثة عقود واصلت الحركة الدفع بقضية الجنوب العربي ضمن محددات وتوازنات نظام أحادي القطب، اختزل المساحة الجغرافية الممتدة من باب المندب إلى المهرة وعلى طول ساحل بحر العرب، في مكافحة الإرهاب فقط.
الجنوبيون شكلوا، في حقبة القطب الواحد، سياقا ممتدا لحركة تحرر وطنية ملتزمة بمبادئ القانون الدولي، فلم تخرج تلك الحركة عن تمسكها بالعمل السياسي في إطار نزاعها القائم ضمن إطار الجمهورية اليمنية، مع العمل على تشكيل حراك مدني من خلال التظاهرات والاعتصامات السلمية، والتي واجهها نظام صنعاء بالقمع واستخدام القوة العسكرية المفرطة، بما في ذلك استخدام الرصاص الحي الذي تسبب في سقوط الآلاف من القتلى والجرحى.
شكلت انتفاضة المكلا (أبريل 1997) المنعطف الأكثر قوة في الحركة التحررية الجنوبية، على اعتبار أنها شهدت سقوط أول الضحايا المدنيين. ثم امتدت على شكل موجات غضب شعبية في أنحاء المنطقة الجنوبية، إلى أن تم الإعلان عن تشكيل الحراك الجنوبي السلمي في جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرحين من عملهم، وطالب الحراك الجنوبي النظام الحاكم بالمساواة وإعادة المسرحين العسكريين والمدنيين، وطالب الحراك الجنوبي منذ السابع من يوليو 2007 بالاستقلال لجنوب اليمن باعتباره بلدا محتلا بالقوة العسكرية من قبل اليمن الشمالي.
الأمر أشبه بزلزال ما أن يبدأ حتى يحدث تشكيلا جديدا نتيجة تحرك الصفائح الأرضية، وهو ما يحدث تماما بين موسكو والكتلة الغربية؛ الزلزال وقع، وتشكل النظام العالمي الجديد بات حقيقة مكتملة
تزايدت موجة الحراك وتحولت إلى صدام حاد مع نظام صنعاء، الذي لم يجد حتى القدرة على مواجهتها، إلى أن اهتز النظام السياسي اليمني بكامله مع امتداد ما سمي الربيع العربي في عام 2011، عندها فقدت صنعاء توازناتها واضطرت للقبول بالتسوية، عبر المبادرة الخليجية تحت الفصل السابع المقرر من أعلى سلطة سياسية دولية ممثلة في مجلس الأمن الدولي. ورغم كل العوائق نجحت القوى الوطنية الجنوبية في التراص داخل عدن، ولم تستطع أن تحقق عملية الاستفتاء لنقل السلطة إلى عبدربه منصور هادي في محافظات الجنوب غير نسبة 8 في المئة من الأصوات، مما أكد الرغبة الشعبية في فك الارتباط واستعادة الدولة إلى ما قبل مايو 1990.
الانقلاب الحوثي في صنعاء أدى إلى هجوم عسكري واسع على مدينة عدن، وأدت الفوضى إلى سيطرة تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة على محافظات حضرموت وأبين وشبوة ولحج، وترك الجنوبيين يواجهون مصيرهم في صراع غير متكافئ مع ميليشيات الحوثي وقوات علي عبدالله صالح المتحالفة معها، واضطر الجنوب لاستخدام الأسلحة الفردية لمقاومة الغزو، حتى انطلقت عاصفة الحزم التي ساندت المقاومة الجنوبية لتحرير عدن في يوليو 2015.
تحرير عدن هو الانتصار العربي الأوحد عسكريا على إيران، وكان الطريق إلى تطهير أجزاء من الجنوب العربي من عناصر التنظيمات الإرهابية، مما أعاد لهذه المنطقة المساحة الآمنة التي أعادت وضع الأمور في نصابها، ما قبل عام 1990، عندما كانت هذه الأرض خالية تماما من أفكار الإسلام السياسي المتطرفة. بدوافع عديدة اندفع الجنوبيون نحو عاصمتهم الأبدية، ليكون فيها إعلان عدن التاريخي ممهدا لنشأة الكيان السياسي المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه رافعة سياسية تلغي كافة أوهام الارتباط مع أنظمة صنعاء القبلية والمذهبية.
خاض الانتقالي مواجهة مع تلك القوى المتلبسة بعباءة الشرعية وتغلب عليها عسكريا، ثم انتزع عنها الشرعنة عبر “اتفاق الرياض”. الموضوعية في المشهد السياسي تقتضي فك الارتباط بين صنعاء وعدن، وهو الحدث المؤجل في الشرق الأوسط، المشدودة حباله وأنظاره على بوتين وهو ينفض الغبار عن روسيا القيصرية ويعيد التذكير بالرايات الحمراء السوفيتية، ليس لأنه راغب في إعادة ترتيب العالم، بمقدار ما هو تفاعل مع مقتضيات الواقع الدولي بضرورة إنهاء حقبة الأحادية القطبية.
موسكو لها في الشرق الأوسط حواضنها، ولها مياهها الدافئة التي طالما امتد نفوذها السوفيتي إليها في زمن الحرب الباردة الأولى. ومع تشكل النظام العالمي الجديد في القرن الحادي والعشرين تبدو عدن أهم ما يمكنها النظر إليه، باعتبارها نقطة الارتكاز التي يمكن أن توازن بين القوى الدولية وتوازناتها السياسية. وكما شكل سقوطها عام 1994 البداية الحقيقية للنظام الأحادي القطب، آن الأوان لتعود عدن عاصمة مستقلة لدولة جنوبية ذات وزن في شرق أوسط جديد يستعيد فيه العالم شيئا من توازنه السياسي.