جواس استشهد لكنه لم يمت
د. عيدروس النقيب
- القرصنة ليست دعماً للقضية الفلسطينية
- القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم(1)
- لحظات في حضرة اللواء الزبيدي
- بين عبد الملك ومعين عبد الملك
أسئلة ما بعد جواس.
كانت حادثة اغتيال الشهيد اللواء ثابت مثنى جواس قائد محور العند ونجله مثنى وعدد من مرافقيه، صادمة بكل معاني الصدمة، لكنها فتحت الأبواب على مصاريعها لكل المعنيين بالشأن الجنوبي من قادة سياسيين وناشطين مدنيين ومثقفين وحقوقيين ومواطنين عاديين للتساؤل:
حتى متى يستمر نزيف الدم الجنوبي؟
ولماذا تمضي الوتيرة العالية في تصفية القيادات والكوادر الجنوبية دون سواها؟
وهل القتلة وسياساتهم الإرهابية ليسوا وحدويين في ممارستهم لهذا الرذيلة كوحدوية مموليهم وموجهيهم؟
ولماذا لم نسمع عن أي عملية اغتيال تستهدف أي قائد من دعاة اليمن الاتحادي أو مشروع ولاية الفقيه اليمنيين؟
لقد ظل الشهيد جواس منذ انخراطه في الجيش الجنوبي كجندي ثم كصف ضابط فضابط وقائدٍ عسكريٍ ظلَّ صديقا للموت، أو كما قال لي ذات مرة، كلنا مشاريع شهداء، وروى عنه الإعلامي أنور العنسي أنه عندما قابله في الأسر أثناء حرب 1994م قال له: أنا عسكري، وإن تكون عسكريا يعني أنك أقرب إلى الموت.
لقد كان الموت يمر جانبه ، يسبقه أحياناً، أو يلاحقه أو يتأخر عنه، لكن الشهيد البطل جواس لم يكن يأبه له ولم يفكر يوما بالهرب منه ليظفر بيومٍ إضافيٍ في هذه الحياة الفانية.
كان جواس عسكريا محترفا بمعنى الكلمة وقد خاض منذ اليوم الأول لانتمائه إلى الجيش الجنوبي من المعارك ما يجهله الكثير من كتاب تاريخ قواتنا المسلحة الجنوبية منذ ما قبل الثلاثين من نوفمبر 1967م، حتى معركة تحرير الجنوب في العام 2015م، ولم يخض جواس معركةً إلا وانتصر فيها، باستثناء معركة الغدر والخيانة في العام 1994م التي قامت ضد الجنوب والدولة والشعب الجنوبيين، وهزم فيها كل الجنوب ومشروعه الوطني بسبب عدم التكافؤ واختيار الخصم سياسات الغدر والخديعة وابتزاز العالم أجمع للظفر بهذه المعركة، التي كانت طريقه إلى الهلاك.
كان ثابت مثنى (جواس) ذلك القائد الذي يتقدم صفوف مرؤوسيه وأحيانا رؤسائه، ولم يكن قط في ذيل الفيلق أو في مؤخرة القوة، وطبعا لم يقد المعارك من فنادق المهجر أو عبر رسائل الووتسأب.
قال لي أحد الشباب الذين كانوا تحت قيادته في جبهة سيلة بله عام ٢٠١٥م: عندما يكون قائدك جواس تشعر أنك تقاتل بثقة وعزيمة بل وبمتعة، فأنت تحس وكأنك تتكئ على جبل أو تحتمي بطود يصعب اكتساحه.
والقائد الشهيد جواس هو تلميذ المدرسة العسكرية الجنوبية التي ربطت العسكرية بقضايا الوطن والانتماء للشعب، ولم تنحرف قط باتجاه الانتفاع من هذا الانتماء أو توظيفه لتحقيق مكاسب أو مصالح أنانية أو مناطقية أو جهوية، بل لقد كان هذا الانتماء شرفاً وعزةً ومصدر فخرٍ لكل من فاز به، لأنه كان يعني البطولة والنزاهة والفداء والإباء والتصدي للظلم ومقاومة القهر ورفض التمييز بين المواطنين.
كل الذين واجههم جواس فشلوا في النيل منه في معارك المواجهة المسلحة ذات القواعد والأصول المتعارف عليها دوليا، أو كما يسميها البعض بـ"قواعد الاشتباك" كل هؤلاء بعد أن أصابهم اليأس في إلحاق الهزيمة بهذا القائد البطل اجتمعوا وقرروا الانتقام من الشهيد بعيداً عن أصول المواجهة وشرف الهجوم أو الدفاع عن القضايا العادلة، لأنهم كانوا في مواقف القضايا غير العادلة.
الذين اغتالوا الشهيد جواس ونجله ورفاقهم لم يكشفوا إلا عن جبنهم ونذالتهم ودناءة سلوكهم وحقارة وسائلهم بل وضعفهم ورعبهم من مواجهة الضيغم الهصور.
والآن نعود إلى أسئلة ما بعد اغتيال البطل جواس، للبحث عن إجابات مقنعةٍ لما تتضمنه من مرارة التساؤل وقسوة الاعتراف بالحقيقة.
إن القتلة لم يختاروا جواس لشخصه، فهم قد اغتالوا قبله العشرات بل والمئات، ممن قد يتفاوتون في السن والتجربة والموقع القيادي لكن ما يجمعهم كلهم أنهم من خيرة رجالات الجنوب وأكثرهم تمسكا بحق الشعب الجنوبي في استعادة دولته.
لا يختلف اثنان أن الاستهداف هو لقضية الجنوب وشعبه، ومحاولة وأد الحلم الجنوبي في استعادة الدولة والشروع في بناء المستقبل، وقد لا يكون جواس آخر المستهدفين بهذه الأفعال المشينة.
أعمال الإرهاب في الجنوب هي جزء من الحرب التي تستهدف الجنوب كل الجنوب وهي صورة أخرى من صور هذه الحرب، وهناك عوامل عديدة تمثل السبب الرئيسي لاستمرار هذه الأعمال لكنني سأتوقف هنا عند سببين رئيسيين:
الأول إن القوات المسلحة وقوات الأمن الجنوبية وبقية المسميات المتصلة بها كقوات مكافحة الإرهاب وسواها وكل القيادة السياسية الجنوبية تعمل بدون جهاز استخباري قادر على كشف الجريمة ووأدها قبل وقوعها "كما يقال" من خلال رصد الأنشطة المعادية وتتبع خيوطها واتخاذ الاجراءات الوقائية التي تمنع حصول الجريمة وتقطع دابرها.
الثاني إن أي طرفين متحاربين سواء كانا دولتين أو مقاطعتين أو جيشين أو حتى قبيلتين، ما إن تبدأ الحرب بينهما حتى تغلقا الحدود بينهما، إلا عندنا فعدن ومحافظات الجنوب بقدر ما تستقبل من أعمال التخريب وجرائم الاغتيال فإنها وبنفس القدر وربما أكثر تستقبل آلاف القادمين من مناطق العدو عبر حدود مفتوحة لا تضبطها ضوابط ولا تخضع لأية إجراءات تنظم عمليات التنقل أو تدقيق في هويات القادمين وانتماءاتهم وأهدافهم، ومن خلال هؤلاء فإن الجميع يعرف أنه لو أن من بين ألف من القادمين خمسة أو عشرة مكلفون بأعمال تخريبية فإن آلاف الإرهابيين والمخربين والقتلة يتدفقون يوميا على عدن ومناطق الجنوب ويفعلون ما يحلو لهم من جرائم وأعمال تخريبية وإرهابية ويعودون إلى المناطق التي قدموا منها بكامل الطمأنينة والزهو بل وقد يواصلون تحضيرهم لأعمالٍ تحريبية وإجرامية أخرى طالما لا يوجد من يكشفهم أو يتصدى لهم.
وهكذا فما لم تعالج هاتين الإشكاليتين (وإشكاليات أخرى قد تكون أقل أهمية) فعلى كل قائد سياسي أو عسكري أو أمني، بل وعلى كل مواطن جنوبي أن يتوقع أنه الضخية القادمة، وعلينا أن لا نتوقع أية نهاية أو توقف أو حتى تراجع في العمليات الإرهابية والتخريبية.
لقد استشهد جواس وروحه اليوم تحلق في ملكوت الرحمن الرحيم ، تغمرها عوالم المغفرة والرضوان بإذن الله، لكنه لم يمت فالموت لا يكون إلا حينما تغيب المبادئ والأهداف والمثل العليا، وتلك التي آمن بها جواس ورفاقه الشهداء الأولون والآخرون تتناسل اليوم بين ملايين الجنوبيين، مخلدة تلك الأسماء الكبيرة التي كانت عظيمة في حياتها وفي مماتها.
الرحمة لروح الشهيد جواس ونجله ورفاقهما وكل شهداء الجنوب واللعنة والعار على القتلة والمجرمين وسائر المخربين والإرهابيين
وأصدق مشاعر العزاء والمواساة لأهالي الشهيد ونجله وأهالي رفاقه الشهداء وذويهم ومحبيهم ولشعبنا الجنوبي وقواته المسلحة والأمنية
ولا نامت أعين الجبناء