حتى لا ينخدع الجنوبيون للمرة الخامسة (4)

لم تتوقف نتائج الخديعة الثالثة التي تعرض لها الجنوب والجنوبيون عند اختطاف الانتصار وتحويله إلى منجز للهاربين ومعهم من وقف مصفقا للصرخة في ميدان السبعين خلف الزعيم وجماعة الحوثي، ولا على استبعاد رجال المعارك وصناع الانتصارات وقادة السياسة والإدارة الناجحين وتحويلهم إلى أعداء معلنين، بل لقد تحولت هذه الخديعة إلى حرب معلنة وليست سرية ضد الجنوب كل الجنوب، حرب لم تقتصر على سياسات التجويع وحروب الخدمات، بل امتدت إلى حالة الغزو العسكري المعلن، والذي كانت قصة "غزوة خيبر" المعروفة تلخيصا مكثفا له، واستحضاراً وقحاً لثقافة الغزو والاجتياح وتلخيصا لفتوى "حرب المسلمين على الكفار" التي بدأ الإعداد لها منذ نهاية السبعينات وخلال الثمانينات ولم تتوقف عند غزوة 1994م البغيضة وما بعدها. وهكذا تحول الانتصار الجنوبي الذي صنعه الشهداء الأماجد والمقاتلون الأبطال، من كل فئات الشعب الجنوبي تحول إلى حرب وحصار على كل الجنوب والجنوبيين، وبدأت حرب الخدمات وسياسات التجويع كجزء من هذه الحرب. وعندما بادر الأشقاء في المملكة العربية السعودية بالدعوة إلى حوار الرياض، كان الطرف الآخر المقيم قادته وأساطينه أصلا في الرياض، قد بدأ بالإعداد للخديعة الجديدة، فبينما كان الفريق الجنوبي الذي رأسه الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، قد ذهب إلى الرياض بنِيَّةٍ خالصةٍ لغرض وقف المواجهة العسكرية وصيانة الدماء والأرواح، وإنهاء حرب الخدمات وسياسات التجويع ضد أبناء الجنوب، كان الطرف الآخر يبحث عن خديعة جديدة لاستكمال سرقة النصر الجنوبي والإجهاز على أي شيء له صلة بالقضية الجنوبية. وكما يعلم الجميع فإن هذا الطرف لم يسافر إلى الرياض بالطائرات أو السفن أو القطارات، بل لقد كان ممثلوه لا ينتقلون إلا من غرفة النوم إلى صالات اللقاءت في نفس الفندق أو أحد الفنادق المجاورة، بينما ترك ممثلو المجلس الانتقالي أشغالهم ومهماتهم وعطلوا أعمالهم أملاً في حل سريع ينهي الحصار والحرب ويحفظ دماء وأرواح المتقاتلين. وهكذا جاء اتفاق الريًاض بالصيغة التي عرفها الجميع بحسناته ومساوئه ليمثل نتيجةً باهتةً لثلاثة أشهر من الحوارات والمداولات المطولة والمملة. أين تكمن الخديعة؟ _______ لم تكن المشكلة في الاتفاق ذاته كوثيقة وكبنود، ولكن كعادة الأشقاء، ومؤيديهم من القلة الجنوبية، ومعظمهم ممن أكلوا على جميع الموائد السياسية، إنهم كما قلت في البداية يتعمدون حشو المعاهدات والاتفاقات بمفردات زئبقية تقبل مئات التفسيرات، فيختارون من التفسيرات ما يناسب الخديعة التي أعدوها سلفا.ً فالملحق الأمني والعسكري مثلا الذي أقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها، ينص على في مجموعة من المهمات، يتركز معظمها في إعادة القوات القادمة إلى أبين وشبوة وعدن إلى مواقعها السابقة، وتوحيد الجهد العسكري والأمني، وتوجيهه نحو المعركة مع الحوثي من أجل تحرير صنعاء، لكنهم كانوا أشطر، فقد سلموا الحوثي محافظات الجوف ومأرب والبيضا في أقل من ثلاثة أشهر وأوصلوه إلى مديريات بيحان الثلاث، ولم يتخلوا عن دمج القوات الجنوبية تحت قيادتهم المحترفة في صناعة الهزائم، وضمن قواتهم التي كانت تتنازل عن أربع وخمس مديريات في اليوم الواحد للجماعة الحوثية. وكانهم يريدون أن يقولوا: اعطونا القوات الجنوبية الباسلة التي صنعت انتصار 2015م لتساعدنا على تسليم محافظات الجنوب للحوثيين. وحتى قوات ما عُرف بـ"حراس الجمهورية" في مناطق الساحل الغربي، والتي تسلمتها من المقاومة الجنوبية والتهامية وهي على مشارف مدينة الحديدة، قامت تلك القوات بتسليم عدد من المديريات التي حررها المقاومون التهاميون والجنوبيون، قامت بتسليمها للحليف السابق (الحوثي) تحت حجة "إعادة التموضع" التي لا يفهمها حتى الضالعين في علوم العسكرية والتكتيك العسكري. وباختصار لقد جرى استخدام اتفاق الرياض كخديعة أريد منها تنفيذ هدفين: 1. الهدف الأول إخضاع القوات الجنوبية الأمنية والعسكرية للقيادات الشمالية التي سلمت مأرب والجوف والبيضاء وقبلها كل البلاد للجماعة الحوثية وإدخالها (أي القوات الجنوبية) في معركة غير مكافئة مع الحوثيين تكون نتيجتها المحققة القضاء على القوات الجنوبية ومن ثم دفن القضية الجنوبية التي لا يعود لها أفق بدون قوات المقاومة الجنوبية بشقيها الأمني والعسكري. هذا اقل الافتراضات لؤما، أما أسوأها فهو استكمال تدمير تلك القوات، بأية وسيلة غادرة كما جرى مع قادة وأفراد لواء الحرس الرئاسي الجنوبية الذين تركهم الأشقاء للصلاة وحدهم في أحد مساجد مأرب ثم جرى تفجير المسجد ليموتوا عن قاطبتهم دون أن تسيل معهم قطرة دم واحدة من "الجيش الوطني البطل". 2. تفريغ الساحة الجنوبية من قواتها الأمنية والعسكرية لتمكين القوات الحوثية من دخول الجنوب عن طريق الضالع ومكيراس ويافع، و"الجيش الوطني" الهارب عن طريق شبوة- أبين وتعز- لحج، ودفن أي مسمى للقضية الجنوبية وقتل حلم الجنوبيين الذي ضحوا من أجله بعشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى ، وبعدها كما يقول الأشقاء، "نتفاهم"، "وما فيش بين الإخوان حساب". لقد أُبطِل مفعول هذه الخدعة بأسباب وعوامل كثيرة لعل أهمها أن الذين يطالبون بتولي قيادة القوات الجنوبية صانعة الانتصارات هم من أكثر القادة تفوقاً في صناعة الهزائم، كما جاءت فضيحة تسليم بيحان من قبل قوات "الجيش الوطني المغوار" ثم تحريرها بعد ذلك على أيدي قوات العمالقة الجنوبية خلال أقل من أسبوعين لتثبت أن المتلهفين لوضع القوات الجنوبية تحت قيادتهم هم أقل أهلية لتحرير قرية أو حارة في مدينة، وأن مكانهم المناسب هو قاعات المحكمة العسكرية بتهمة الخيانة الوطنية، وليس قيادة القوات الجنوبية التي لا تعرف إلا صناعة الانتصارات. إن إبطال مفعول هذه الخديعة لا يعني نهايتها ففواعلها وأفخاخها الرئيسية قد انتقلت إلى وثيقة مشاورات الرياض، والمتلهفون لتنفيذها ما يزالون يتصدرون المشهد في التركيبة السياسية الجديدة التي تزامنت مع المشاورات. وهذا ما سنتناوله في وقفة قادمة. وللحديث بقية