سلاماً انجرامس

فيما تتفتح الأحداق وتحتار العقول في المشهد الحضرمي، إذ تتوالى فيه بيانات غير بينة المضمون ولا حتى الرؤية فيها. وفيما يبدو الحال معتكراً، فإن ضبابية المشهد تنجلي بالعودة إلى الجذور للحالة الحضرمية. ففي القرنين الثامن والتاسع عشر وحتى مطالع القرن العشرين، كانت الحالة المجتمعية ليست كحالها اليوم التي تعيش انسجاماً استثنائياً على مدى ما يقرب قرن من الزمن عندما وضعت حروب القبائل أوزارها في صلح عام 1934، الذي كان عرابه المستشار البريطاني طيب الذكر اللورد «هارلد انجرامس». فلقد شكلت النزاعات واحدة من الخصائص المجتمعية التي دفعت بزيادة الهجرات وكانت الثارات القبلية جزء من تلك النزاعات ككل قبائل شبه جزيرة العرب في تلك الأزمنة، لم تستطع السلطنات الحضرمية أن تفرض كامل سلطتها السياسية لشراسة رجال القبائل في معاركهم وهو ما عطل التنمية الاقتصادية باستمرار حتى ظهرت مبادرات المهجر وتحديداً حضارمة سنغافورة وجاوه الذين حاولوا تقديم المساهمات للتقريب بين القبائل حتى استطاع انجرامس بمساهمة فاعلة من السادة آل البيت العلويين من وضع هدنة لثلاث سنوات تحولت لصلح عام شمل المجتمع في الداخل والمهجر وشمل الصلح على ألف وأربعمائة قبيلة. انعكس سريعاً الصلح القبلي على السلطنات القعيطية والكثيرية وأن كان السلطان صالح بن غالب القعيطي أكثر حيوية في التنمية الاقتصادية بإبرامه معاهدة مع السلطات البريطانية في عدن كما أنه انتهز موقع مينائي المكلا والشحر كمنافذ أساسية لتمويل مشاريع البنية التحتية في سلطنته التي شهدت تطوراً هائلاً مع تدفق البضائع التي تكثفت من حضارمة الشرق الآسيوي والأفريقي والهندي وهو ما جعل من السلطنة تتوسع في مجالات التعليم والصحة، كما أن إكمال شق الطريق بين المكلا وحواضر الوادي تريم وسيئون كان له أثره في التحول المدني للمجتمع الحضرمي. اللحظة الفارقة من تاريخ حضرموت كانت في استنساخ التجربة السودانية التي كانت قد اعتمدت تعريب المنهج البريطاني في معهد بخت الرضا، وهو ما أشار إليه «القدال باشا» للسلطان صالح القعيطي، الذي يعد مؤسس حضرموت الحديثة لاهتماماته البالغة بالتعليم وابتعاث الطلبة إلى مصر وسوريا ولبنان والعراق في عهده، كما أن نشأة المدرسة الوسطى بغيل باوزير دفعت بحواضر مدن الساحل، لتبدأ عصر المدنية مع استجابه مجتمعية واسعة سرعت في تذويب مسببات النزاعات وفتحت بالسلام فرصة للحياة الآمنه. الاستقرار صنع واقع حضرموت حتى العام 1990 تحديداً، وهو عام توقيع معاهدة الوحدة بين اليمن الشمالي والجنوبي ومنه تسللت العصبيات المذهبية والقبلية، وبعد الاحتلال اليمني للجنوب في 1994، كرست قوى المركز المقدس جهدها بنشر ثقافتها حتى تحولت البلاد الجنوبية كلها لحديقة خلفية عبثت بها قوى الشمال ووطنت فيها العناصر التكفيرية، وجعلتها ممرات لتجارة الممنوعات من سلاح ومخدرات، ولم تكن حضرموت غير واحدة من المستهدفات التي تأثرت بالتجريف لهويتها وثقافتها ومذهبها الشافعي المعتدل. السلام الذي أسسه «إنجرامس» صاغ اللحظة الحضرمية الممتدة حتى وإنْ طرأ عليها الارتباك فيما يتبادله الطيف الحضرمي من نزعات عصبية ستتلاشى مع الخلاص من اليمننة السياسية وعودة الحضارم لدورهم التنويري، فلم يكن هؤلاء القوم منذ عقود دعاة عنصرية وتعصب مذهبي، حتى تسللت إليهم من باب اليمن، فجاءتهم الحزبية الدينية والعصبية القبلية وعمت البلاد بالجهل فتساوى فيها الناس بظلمهم لأنفسهم حين قبلوا الإرتهان لما جاءهم، وهم أي الحضارمة الذين صاغوا لهذه البلاد شكلها وسياقها ومسارها، فكانوا طلائع الناس بالعلم والمعرفة. وحين تخلوا عنها تراجعوا وتحولوا لضحايا بيانات «فيسبوكية»، لا تمت لهم ولا لذلك البريطاني الذي نقول له وبكل الأنين «سلاماً إنجرامس». حضرميو اليوم عليهم استدعاء مكنونهم المعرفي بما فيه من تنوع وانفتاح، فبلادهم مسؤوليتهم وحدهم وهم عليهم تحمل العبء وإنْ ثَقُل على كواهلهم، فليس من الحكمة تصغير حضرموت وجعلها آداة للجماعات الإسلاموية. فهذه البلاد لم تكن ولن تكون يوماً صفراً على شمال اليمن، بل هي رقم صعب في معادلة الاستحقاق السياسي بامتدادها من عدن إلى المَهرة ، أبيات أبوبكر المحضار «وإلا يقـع بيـع والبـيعة قـوية ..... من دون دلال». فهل يعي القوم القصيدة وإلا سيأخذونها «تهقال». والمعنى للحضارمة، وهم بها أعلم وأخبر.