ثمة حقيقة لا يمكن اجتيازها، أن العالم بات في حرب مفتوحة قد يمكن تسميتها يوماً ما بأنها الحرب العالمية الثالثة. تبعات الحرب الروسية الأوكرانية أكبر بكثير من كل التوقعات وحتى النبوءات التي تبعثرت في الساعات الأولى لهجوم القوات الروسية على أوكرانيا.
وإذا كان هناك من ثابت، فهو أن العالم أحادي القطبية قد انتهى ودخل النظام العالمي في سيولة شديدة جرفت معها حواجز ما صنعته الحربان العالميتان الأولى والثانية معاً، أو أنها توشك أن تفعل ذلك. الولايات المتحدة التي لعبت دور شرطي العالم تخلت منذ عهد الرئيس أوباما عن دورها ووضعت قبعتها على الطاولة، وهذه من تحولات المشهد الدولي التي شجعت القوى المناوئة للهيمنة الأميركية على أن تتقدم خطوات لملء الفراغ الأميركي في العالم.
روسيا والصين استشعرت الفرصة المواتية، وفيما كان العالم يخوض في التأمل كان هناك من تجرأ وتحرك واستفاقت الشعوب على واقع حرب مدمرة تطال كل شيء على وجه الأرض. التلويح باستخدام السلاح النووي قابلته واشنطن بما هو أكثر من الفعل بإنزالها أشد العقوبات الاقتصادية على روسيا، ولم تكتفِ بذلك لمعرفتها مسبقاً بأن سلاح العقوبات لن يهزم القيصر، فهو السلاح الذي لم يهزم من قبله كاسترو الكوبي ولا معمر الليبي ولا حتى كيم الكوري الشمالي، الأمر الذي كان يخبئه الأميركيون كان تسقيف سعر النفط الروسي، وهو السلاح الاقتصادي الأخطر الذي في الواقع يسقط قيم الرأسمالية التي لطالما استند عليها الغرب الليبرالي.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تكترث لتلك القيم، ولم تعد تنظر إليها بعد أن جرفها التيار الشعبوي الليبرالي بعيداً عن جذورها وعن مصدر قوتها ووجودها السياسي الطاغي. نقطة التحول مخيفة لأنها سريعة للغاية، وليس لأنها غير متوقعة. فعقيدة أوباما واضحة ومكشوفة، ولكن سرعة التغيير هي التي تشكل صدمة في العالم، فالمتغيرات الجيوسياسية الهائلة أكبر من أن يمكن امتصاصها في عالم مرهق اقتصادياً بعد جائحة كورونا.
في المقابل توقعت روسيا أن تحالفات مع الأصدقاء المبغضين للولايات المتحدة من روسيا والصين قد تشكل التوازن الذي يحافظ على قوة حوائط الصد، ولكن هذه التوقعات لم تحدث مع توالي أشهر الحرب التي أكدت أن امتلاك الترسانة الحربية لا يعني القدرة على حسم حروب القرن الحادي والعشرين، فالطائرات المسيرة رخيصة الثمن وضعت حداً للتفوق الحربي، كما أن أشهر الحرب الممتدة تذكر الرئيس بوتين بأن الاتحاد السوفييتي سقط وهو يمتلك أعتى سلاح نووي في التاريخ، فلا قيمة لكمية الذخيرة من دون أشياء أخرى يفتقدها الروس. العالم لا يعيش في فوضى، بل هي حرب عالمية صعبة بتقنيات العصر الحالي تتطلب وقفة مراجعة مع ذلك الشرطي الأميركي الذي لم يضع منذ سنوات قراءة لمنتهى الليبرالية، وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج.
فهذه هي طبيعة الحياة فكما أن هناك قيماً لديك، فإن لدى الآخرين قيماً ومبادئ، والحياة بفطرتها خلقت على حقيقة الصراع والنفوذ، وليس الانفراد بكل شيء. ولا يبدو أن أحداً في الحزب «الديمقراطي» قادر على المراجعة والعودة خطوات للوراء، كما لا يبدو أن الحزب «الجمهوري» مهيأ للعب دور المراجعة.
فالنخب السياسية الأميركية تعيش عقوداً من الصراع الداخلي ما سبب الانكفاء على الذات، وفي أوروبا تطغى الشعبوية وتمسك الأحزاب اليمينية بالسلطة السياسية، وهذه إشارة أخرى على السيولة العارمة في عالم مخالف لذلك الذي كان عليه من منتصف القرن العشرين، وهو ما يعطي دلالة على أن تشكيل التوازنات الدولية، قد يؤدي إلى تغيير في قواعد الاشتباك، التي ستكون رافعتها القوة الاقتصادية والتحالفات القائمة على المصالح للدول وحتى يعود الشرطي لموقعه ليضبط إيقاع الحركة.. فإلى ذلك الحين ستحدث كثير من الاشتباكات التي سيدفع ثمنها الفقراء على هذه الأرض.