قوة الأشياء
هاني مسهور
- لحظة لإفاقة العقل اللبناني
- حتى لا تكون بيروت عدن أخرى
- من شيخان الحبشي إلى عيدروس الزبيدي .. الاستقلال يعنى الاستقلال
- تل أبيب بعد أرامكو.. الحوثي على رقعة الشطرنج
بسقوط جدار برلين انتهت حقبة من التاريخ وبدأت أخرى. فالنظام العالمي كان لا بد وأن يتشكل وفقاً لحقائق ما أنتجته الحرب الباردة الأولى بين القوى الأيديولوجية المتصارعة، وهو ما تحقق بمفاعيل متعددة كان فيها التنافس بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي طاغياً حد أنه طحن في ذلك الصراع أيديولوجيات قدمت نفسها كقرابين في محرقة ذلك الصراع الشديد.
لم يتفتت الاتحاد السوفييتي فقط، بل حتى حلف وارسو بكامله تشظى ويكفي النظر إلى شظايا يوغسلافيا لمعرفة مدى ذلك التشظي. الرأسمالية فازت وحكمت العالم بقبضة فولاذية كرست الوجود الليبرالي الذي حكم العالم بوجه وحيد، فلم تكن هناك قوة يمكنها مواجهة الدولار الأميركي الذي استحكم في مفاصل الحياة.
فكل الماديات محكومة بقرار من البنك الفيدرالي الأميركي الذي بات قادراً على الإضرار بالشعوب متى ما شعر سيد البيت الأبيض بما يعكر عليه مزاجه، وليس فقط بالبطون وحدها تحكم واشنطن الناس بل بالجيوش العابرة للقارات. ففي عهدة الأحادية القطبية فُرضت الديمقراطية على الشعوب فرضاً كما كان الحال في أفغانستان والعراق والشعوب اللاتينية.
الاشتراكية خسرت الحرب الباردة الأولى، ولكنها لم تمت بل إنها بعثت في أوطانها التي آمنت بها، فهي الفكرة التي توفر العدالة الاجتماعية في عقيدة الاقتصاد، وهو ما فطنت إليه الصين وروسيا كأنظمة استعانت بالنظام الاشتراكي مرة أخرى ليساعدها على الأقل في البقاء بمواجهة المدّ اليساري المتطرف، الذي تطرف إلى ما هو أبعد من توزيع السلطات السياسية وسيادة القانون والتداول الديمقراطي للسلطة إلى أن وصل للمساس بالفطرة البشرية وإسقاط القيم والأخلاق.
الأصل في الطبيعة هو التجدد والصغير يكبر والكبير يضعف بعد القوة، وكذلك الحضارات والدول، فالهنود والصينيون والروس وغيرهم من الشعوب كبروا واشتدت قوتهم واستفادوا من ذلكم الطوفان الهائل من تكنولوجيا المعومات والمعرفة الذي قدمه عالم القطب الأحادي الذي كان يعتقد بأنه حينما يوفر كل ذلك الكم من المعرفة سيكرس سطوة سياساته الحاكمة للعالم، قد يفسر هذه الحقيقة ما وصلت إليه نظرية «نهاية التاريخ».
فلقد كان فوكوياما يعتقد أن لا أحد سينجح في مواجهة السطوة الواحدة، لكن ثمة ناراً من تحت الرماد بعثت الاشتراكية بمنطق مختلف عن ما كانت عليه في القرن العشرين، فالمواءمة بين الاشتراكية والرأسمالية خلقت مساحة لأمم وشعوب لطالما كانت في ضيق أوطانها، فبفضل المواءمة لم تعد اليد العاملة تشكو من البطالة وتحققت المعادلات الاقتصادية الأكثر نمواً وسرعة.
الأشياء تكبر وتزداد قوتها وهو ما التقطته دول كثيرة سارت على درب المواءمة واكتفت بما يكفيها من الرأسمالية وما يلبي الرغبة المعيشية من الاشتراكية، هذا ما حدث وإن كانت دول لديها إرث حضاري شعرت أنها تتملكها رغبة النفوذ السياسي الذي يمكنها استثماره، فذهبت إليه في ظل انشغال العم سام في الذهاب بعيداً في تجربته الليبرالية،
وإن لم يكن وحيداً، فحتى الإنجليز أفرطوا على أنفسهم وقرروا الخروج من الاتحاد الأوروبي لتأكيد النزعة القومية، ولتصاعد الشعبوية في العقيدة الليبراليةما يمكن أن يذهب إليه العالم يبدو مبهماً، فالتحالفات المعاصرة لا ترتكز على الأيديولوجية وحدها، وهو ما يعطي تصوراً ممكناً لعالم متعدد الأقطاب لن يستقر لفترة زمنية طويلة، فمقدار المتاح أن تتشكل التحالفات القطبية لمدى عقدين أو أقل من ذلك بحسب ما سيتاح اقتصادياً من تدوير الاقتصادات الناشئة، والتي قد تتعرض دائماً للأزمات السياسية لطبيعة تكوينها، وهو ما سيقلص دائماً من فترات الازدهار، العالم وفق طبيعة الأشياء سيتطور وستتطور أدوات الدول ونفوذها، وعليه فيجب عدم الاستكانة عند لحظة الرهبة من نشوء نظام عالمي سياسي متعدد الأقطاب.