القنبلة النووية اليمنية

بعد حرب صيف عام 1994 قال الرئيس السابق علي عبدالله صالح “من يمتلك موقع اليمن على باب المندب لا يحتاج لامتلاك القنبلة النووية”، إشارة إلى الموقع الجيوسياسي الذي فرضته الهضبة الزيدية على الواقع السياسي، وهو ما لطالما حلمت به الزيدية على حساب الجغرافيا الجنوبية الشافعية عبر العصور والأزمنة. تحقق هذا الحلم في تلك الحرب بين شطري اليمن الجنوبي والشمالي. لم يكن العرض العسكري الذي قُدّم أمام قادة الدول العربية بمناسبة الذكرى العاشرة للوحدة اليمنية عام 2000 سوى عرض للقنبلة النووية التي امتلكها النظام السياسي. المغزى الحقيقي كان هو ما بات بقبضة علي صالح وحلفائه. وحتى ذلك الاستعراض الحربي غير المسبوق في تاريخ اليمن لم يكن أحد يفكر في ما حققه النظام اليمني من حرب ما يسمى بـ”حرب الانفصال”.

‏التحولات اليمنية بدأت عمليًا مع وفاة الشيخ القبلي عبدالله بن حسين الأحمر، مؤسس حزب التجمع اليمني للإصلاح، فرع التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. بلغ الصراع بين أبناء الشيخ الأحمر والرئيس صالح ذروته مع فوضى “الربيع العربي”. وحتى تلك المرحلة، كان علي صالح ما زال يتصور أنه يمتلك القدرة على التوازن في تحالفاته بين القوى القبلية والأيديولوجية. فكما دعّم الإخوان المسلمين وكانوا مجرد وحش صغير حتى كبروا وتحولوا إلى وحش كبير حاول اغتياله في جامع النهدين، كذلك فعل مع الحوثيين عندما حوّلهم من وحش محشور في كهف من كهوف جبال صعدة إلى وحش قاتل فتك به في 2017، بعد أن كان شريكهم في الانقلاب على السلطة السياسية في 2014. تحول الحوثيون إلى وحش حاول ابتلاع الجغرافيا اليمنية كلها لولا أن السعوديين والإماراتيين تدخلوا في 2015 واستطاعوا أن يوقفوا الوحش عند حدود عدن.

‏بطبيعة التفاعلات، وصل اليمن إلى توازنات قائمة على ما كان عليه قبل عام 1990، أي شمال خاضع للسيطرة شبه الكاملة للحوثيين، وجنوب خاضع لسلطة شبه مطلقة بيد المجلس الانتقالي. وحتى هذه التوازنات تبقى في داخلها توازنات معقدة بين الأيديولوجيا والقبلية والحزبية، ومعها تمكنت أكثر القوى الخارجية من أن تفرض أجنداتها. إفشال واحدة من أجرأ العمليات العسكرية التي دعمتها بشكل مباشر دولة الإمارات في العام 2018، حتى وصلت مع ألوية العمالقة الجنوبية إلى وسط مدينة الحديدة، وأيّا كانت مسببات إفشال العملية، أكانت مقايضة سعودية – أميركية أو غيرها، فإن النتيجة النهائية كانت صادمة. لقد مكنت الحوثيين عمليًا من أهم المواقع الجيوسياسية في الشرق الأوسط ووضعت باب المندب تحت مرمى نيرانهم.

‏سواء وقع هجوم السابع من أكتوبر أو لم يقع، فإن حقيقة امتلاك الحوثيين للقدرات النووية تبقى هي الحقيقة التي بقي مسكوتًا عنها حتى حدث هجوم حماس في 7 أكتوبر. هناك تنبه العالم إلى أن لدى جماعة متطرفة أيديولوجيًا صواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيّرة وتعدادًا بالملايين من الأتباع. كانت الجماعة الحوثية أول طرف من أطراف ما يسمى “محور المقاومة” ينخرط في إسناد جماعة حماس باختطاف سفينة مدنية في جنوب البحر الأحمر، وما لبث أن تحول الموقع الجغرافي بأكمله إلى ساحة حرب أُغرقت فيها السفن، مما أجبر العالم على تغيير الطريق التجاري الذي ظل معروفًا منذ 1869 كممر مفتوح. ليعود العالم إلى الطريق القديم عبر رأس الرجاء الصالح، وكأن العالم أُعيد قرنين كاملين إلى الوراء.

‏مع انعدام الرؤية السياسية الأميركية تشكلت عملية “حارس الازدهار” التي اختُزلت في ضربات جوية أميركية وبريطانية على مواقع حوثية شملت الرادارات ومنصات الصواريخ. عمليًا، كان الحوثيون يوسّعون من عملياتهم، فالضربات غير المؤثرة أوجدت لهم زخمًا داخليًا وتأييدًا غير مسبوق لدى الشعوب العربية. هذا ما كان يبحث عنه الحوثيون منذ أكثر من عقد مضى على انقلابهم، وهو الحصول على التعاطف الشعبي، حتى أن الهجوم اليتيم الذي استهدفوا فيه العمق الإسرائيلي وأصابوا تل أبيب كان مدفوعًا بهذا الزخم، فلقد كانوا يريدون إظهار أنهم يخوضون معركة مع القوى الغربية، وهو ما تحقق لهم حتى استفاقوا ومن خلفهم حليفتهم إيران على رد إسرائيل العنيف الذي شنته في 20 يوليو 2024، وبضربة واحدة دمّرت ميناء الحديدة. وكما ردد الإسرائيليون أنهم أرادوا للشرق الأوسط أن يرى النيران المتصاعدة من اليمن، فإنهم أيضًا قالوا لليمنيين أنفسهم بأن إسرائيل أعادت الحديدة إلى عهد الإمامة تمامًا بتدمير ما تم بناؤه في ستة عقود.

‏الواقعية وحدها، ودون غيرها، يمكن معها معالجة هذه الحقيقة الصادمة في شمال اليمن. لطالما كانت الولايات المتحدة تتعامل مع اليمن باعتباره الحديقة الخلفية للسعوديين، باستثناء مرة واحدة فقط، كانت بعد أن استُهدفت مدمرتها “يو إس إس كول” في عدن عام 2000، لتطلق عمليات استهدفت عناصر تنظيم القاعدة. تُعد هذه أنجح العمليات العسكرية التي اعتمدت فيها على الاستقلالية في الرؤية السياسية والأمنية الأميركية، ولذلك كانت ناجعة إلى حد بعيد.

‏وهذا ما يعيدنا إلى ما تحتاج إليه الولايات المتحدة، وهو ما سيتم فرضه بعد الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر المقبل. فالجمهوريون يعتقدون أنه من الخطأ إطعام الوحش حتى لا يكبر أكثر مما هو عليه، وكذلك، حتى ما يبدو عليه حال الديمقراطيين الذين أفرجوا للتو عن شحنات الأسلحة الهجومية للسعوديين ضمن صفقة تبدو ممهدة للصفقة الكبيرة التي ترغب بها الرياض مع البيت الأبيض.

‏التقييمات الدولية لا يمكنها أن تحقق شيئًا بغير التعامل بجدية مع تعقيدات الداخل اليمني. فاليمن الذي كان في 2014، عندما كان مجرد انقلاب على السلطة، لم يعد قائمًا. المشهد بات مختلفًا: جنوب يرغب أن يكون دولة مدنية منسجمة مع محيطها، وشمال خاضع للحوثيين ولجماعة الإخوان المسلمين. وحتى وإن كانت السعودية، بحسب تقديراتها، أن اتفاقها مع إيران قد جنبها شيئًا من الاستهداف الحوثي، غير أن “حرب البنوك” كشفت أن عليها أن تعيد تقييمها لهذه التقديرات. فهي تحت ضغوط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ومنذ العام 2021 حاولت أن تنتقل من كونها طرفًا إلى وسيط لتقديم تنازلات ضخمة تفوق وضع الحوثي. وهو ما يتعين على الرياض أن تعيد حساباتها بشأنه بعد الانتخابات الأميركية، وتقبل بالنموذج الكوري في محيطها.

‏التحدي وإن كان معقدًا غير أنه يتطلب إرادة سياسية أميركية أولاً ثم دولية وإقليمية لتفكيك القنبلة النووية اليمنية. نقطة الضعف الحوثية لدى الجنوبيين الذين يمتلكون القرار الواضح بداية من إكمال نقل البنوك ومكاتب الطيران والاتصالات ومنحهم استقلالهم المطلق على أرضهم وإن كان عبر مرحلة انتقالية بحكم ذاتي محدد زمنياً. هذا الإجراء الاقتصادي والسياسي إن كان معه تحالف دولي على غرار التحالف الذي تشكل ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق، فإن الحاجة إلى رؤية واضحة تحسم ملفًا كان يمكن حسمه قبل سنوات ولا يعني أن يترك دون معالجة، فالحوثيون مهما بلغت ترسانتهم من الأسلحة تحولوا إلى خطر يتجاوز حدود الشرق الأوسط المأزوم بمفاعيل التقديرات الخاطئة دائماً.