د. باصرة.. رجل العلم والإدارة الذي رحل!

بكل حزن وألم تلقيت يوم (الأثنين 19 نوفمبر ) خبر وفاة الزميل الأكاديمي والباحث المؤرخ والوزير السابق البروفيسور د. صالح علي باصرة الرئيس السابق لجامعتي عدن ثم صنعاء.
د. با صرة مر بفترة مرض قد لا تكون طويلة جدا لكنها لم تكن قصيرة، وكان يمكن معالجة حالته من خلال منحة حكومية في مستشفى أرقى وعلى نفقة الدولة، دون أن نقلل من القدرات الطبية للأشقاء في المملكة الأردنية الهاشمية، لكن معلوماتي أن أحداً من الحكومة، وأعني هنا رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، لم يسأل عنه ولم يفكر بزيارته ناهيك عن منحه منحة علاجية تليق بتاريخه وعطاءاته ومكانته، ما عدا الزيارة اليتيمة للزميل د. الخضر لصور رئيس جامعة عدن.
عاش الدكتور باصرة رجلا شديد الحضور وكبير التأثير منذ زمن العمل الطلابي، أما في السياق الأكاديمي فقد ترك بصمات لم يتقن الأتيان بمثلها إلا القليلين ممن سبقوه ولم ينجح من أتى بعده (لا في عدن ولا في صنعاء) في الحفاظ عليها ناهيك عن محاكاتها أو تطويرها.
وكان متفاعلا في جميع المراحل خصوصا في فترة ما بعد 1994م وتمكن من التوفيق بين التزاماته الوظيفية والسياسية تجاه رؤسائه، الذين تعاملوا بخقد وانتقامية مع الجنوب والجنوبيين على وجه الخصوص، وبين الحفاظ على خيط من الود مع مخالفي (هؤلاء الرؤساء) وضحايا ظلمهم وجبروتهم.
لم يكن مشاغبا وعناديا مثل بعضنا لكن حتى موالاته للحاكم لم تكن مبتذلة كما درج البعض في التنكيل بخصوم النظام نيابة عن النظام.
ما زلت أتذكر يوم مقابلتي له لتقديم ملفي المتضمن طلب العمل في الجامعة، (لم تكن لنا لقاءات كثيرة من قبل عدا سفرة أو سفرتين إلى بغداد ضمن وفدين مختلفين، وتوقعت أنه لا يعرفني) يومها قال لي سأحتفظ بملفك وأدخل اسمك ضمن قائمة الانتظار، لكنهم لن يقبلوك!
صدمني هذا الموقف فقلت له ألست أنت رئيس الجامعة ورئيس لجنة القبول؟ فمن هم الذين لن يقبلوني؟ قال لي أنت اشتراكي ولذلك قد لا يقبلون طلبك؟ قلت له مرة أخرى: أنا أتقدم إليك بملفي كأكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه، ومواطن يمني وليس كاشتراكي، وأخاطبك كرئيس جامعة وليس كمؤتمري، ثم هل لديكم مقاييس للقبول والرفض في العمل الأكاديمي أم إنكم تقبلون وترفضون على أساس الانتماء الحزبي؟ وهل العمل محرم على من كان اشتراكيا ؟
قال لي أنت تعرف كيف تدار الأمور في البلد الآن نحن بعد حرب والاشتراكي متهم بالانفصالية .
وعلى العموم القصة تطول لكنني عرفت منه أن رئيس الجامعة ليس وحده من يقر الأمور ويحسم فيها وأن المتدخلين في عمله ليسوا فقط أكاديميين من صلب الجامعة، بل أطرافٌ حزبية ومخابراتية وغيرها، لكن للأمانة كان الدكتور باصرة يتحايل كثيرا لتجنب الاستسلام المطلق لتلك المؤثرات، فقد قبلنا بعد انتظار 3 سنوات عند تأسيس كليات التربية الجديدة في لودر وردفان والضالع ويافع والصبيحة.
الموت حق على جميع الكائنات الحية من البكتيريا حتى الانسان، والموت لا يبحث عن أسباب وجيهة لأخذ فرائسه، فله قوانينه التي لا تخضع لجدلية السبب والنتيجة، فقد يأتي لأسباب احيانا تكون تافهة جدا واحيانا جليلة وعظيمة.
لكن للاسف الشديد فإنه إلى جانب حالته المرضية غير المستعصية فقد عانى الرجل من الإهمال والتجاهل وهو الذي أعطى ما أعطى للتاريخ والأجيال. . . للدولة وللمجتمع. . . للحكام والمحكومين، ومع ذلك لم يكلف أحدٌ نفسه بمجرد الزيارة أو حتى السؤال عنه، وأرجو ان لا يقول لي أحد أن الموت قدر محتوم لا يقبل التأجيل فأنا أعرف هذا لكنني أعرف أن العلاج والدواء ومحاولات الإنقاذ لم تخلق إلا من أجل إنقاذ من يذهبون ضحية الإهمال والتجاهل والأخطاء الطبية التافهة، ويقيني ان التجاهل المعنوي والتنكر السياسي الذين تعرض لهما الرجل، فيهما اسباب كافية للشعور بالظلم والقهر واليأس الذي يسرع من تدهور الوضع الصحي لأي مريض كان.
وقد بلغني أنه كان في قمة السعادة لمجرد أن زاره الزميل رئيس جامعة عدن، وهذه تحسب للدكتور الخضر لصور كجزء من أداء الواجب.
لك الرحمة د باصرة ولذكراك الخلود في ذاكرة الاجيال ولروحك المجد في الاعالي، وغفر الله لك زلاتك وضاعف لك الثواب لحسناتك وأسكنك فسيح جناته.
صادق آيات العزاء والمواساة لابنه العزيز د. شادي وعبره لكل أفراد الاسرة وللزميل المهندس محسن باصرة وكل إخوانه وكل محبي الفقيد وذويه وزملائه وتلاميذه، وللأسرتين الأكاديميتين في جامعتي عدن وصنعاء.
وإنا لله وإنا إليه راجعون