اليمن على رقعة الشطرنج الأميركية

تماماً كمن يصحو متأخراً جاءت هذه الصحوة الأميركية نحو اليمن، ومهما حاولت الولايات المتحدة تغليف استيقاظها المتأخر بعناوين الأزمة الإنسانية وغيرها، فإن الحقيقة هي أن الأميركيين تأخروا أكثر من اللازم في الاهتمام بالملف اليمني، ولعل ما هو أسوأ أن الصحوة الأميركية لم تستوعب الأزمة وزادت التعقيدات بتصريحات صقور البيت الأبيض التي لم تنظر إلى اليمن، بمقدار ما نظرت إلى ما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة في مواجهتها للإيرانيين.

 

تبدو الاستراتيجية الأميركية في ما بعد دخول الحزمة الثانية من العقوبات الاقتصادية على النظام الإيراني في مطلع نوفمبر 2018 أقل مما كان منتظراً، نتيجة إعفاءات قدمتها واشنطن لعدة دول مازالت مرتبطة بالنفط الإيراني، ومن الطبيعي أن النطاق الزمني الذي يمكن أن يؤثر على النظام الإيراني سيحتاج إلى بعض الوقت لتبدأ التأثيرات على النظام اقتصاديا، وهو ما يبدو أكثر وضوحاً في الاحتجاجات الشعبية في الأحواز، ولكن تأثير تلك العقوبات على أنشطة إيران الخارجية التي يقودها الحرس الثوري عبر الميليشيات الموجودة في سوريا ولبنان والعراق واليمن يحتاج إلى بعض الوقت، فهذه الميليشيات لديها أنشطتها المالية التي تعتمد بدرجة أساسية على تجارة المخدرات وغسيل الأموال والتجارة في سوق السلاح، وهي تجارة عابرة للقارات توفر مصادر مالية لتلك الميليشيات.

 

بالتركيز على اليمن فإن الحوثيين،  يحصلون من ميناء الحديدة على ما يقدر رسميا، من إيرادات مالية تصل إلى 30 مليون دولار شهريا تُضاف إليها الضرائب وتحصيلات الخدمات الهاتفية، ويضاف إلى ذلك ما تحصل عليه الميليشيات الحوثية من أنشطتها في سوق المخدرات والسلاح وغسيل الأموال والاتجار بالبشر، وهي مبالغ مالية توفر للحوثيين شراء الولاءات القبلية مع تأكيد أنهم لا يدفعون رواتب الموظفين ولا يقدمون أموالاً في الخدمات العامة.

 

هنا تظهر واحدة من الإشكاليات العميقة عندما أعلن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن ضرورة وقف الحرب في اليمن والدعوة لمفاوضات مباشرة قبل 30 نوفمبر، وألحقه وزير الخارجية مايك بومبيو بتصريحات مماثلة لم تضع في اعتباراتها التقدم العسكري الذي حققته ألوية العمالقة الجنوبية التي باتت على مشارف ميناء الحديدة الاستراتيجي، ومن الواضح أن الأميركيين لم يستوعبوا أن العملية العسكرية في الساحل الغربي اليمني التي تهدف إلى إخضاع ميليشيات الحوثي للنزول إلى طاولة المفاوضات بعد جمود المسار السياسي منذ انتهاء مشاورات الكويت في أبريل 2016، وبعد أن تخلف وفد الحوثيين عن حضور مشاورات جنيف التي كانت مقررة في سبتمبر 2018، مما استوجب إطلاق عملية تحرير ميناء الحديدة، وهو الذي أيضاً يتقاطع مع السياسة الأميركية بتجفيف مصادر الأموال الإيرانية لأذرعها في الدول العربية، وهذا ما يثير السؤال لماذا تدعو الولايات المتحدة إلى وقف الحرب اليمنية في وقت يمكن أن يتم قطع الحبل السري بين الحوثيين والإيرانيين عبر المقاتلين المحليين؟

 

إدارة دونالد ترامب تريد أن تقول للعالم إن استراتيجيتها المتشددة تجاه إيران تحقق أهدافها بسرعة عبر اليمن، وهذا ما لا تريده الدول الأوروبية التي مازالت تتمسك بالاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران عام 2015، وتدرك تلك أن الانسحاب الأميركي كلّف الشركات الأوروبية العشرات من الفرص الاستثمارية الضخمة نتيجة الموقف الأميركي.

 

الحديدة لم تعد مفتاح الحل بل تحولت إلى عُقدة من العُقد الصعبة التي أدت إلى تدويل الأزمة اليمنية وتحولت إلى نقطة تجاذب بين مختلف الأطراف، فيما يبدو المشهد الميداني أكثر تعقيدا نظرا لتشابك خطوط التماس بين ألوية العمالقة الجنوبية وميليشيات الحوثي التي تراهن على خروقاتها المستمرة للهدنة الهشة، فيما يبدو المبعوث الأممي مارتن غريفيث بين مطرقة الأميركيين وسندان البريطانيين، ولم يقدم أفقا سياسيا واضحا للحل السياسي، كما لم يقدم مسوغات مقبولة لكل الأطراف اليمنية المتصارعة حول أفكاره تجاه ميناء الحديدة.

 

الأميركيون عليهم أن يدركوا خطورة منح الحوثيين حصة سياسية تكون نواة لمشكلة أكبر. فاليمن متاخم لحليف الولايات المتحدة الرئيسي في الشرق الأوسط وهو ما يجب استدراكه، فالسعودية لن تقبل بوجود كيان يوازي حزب الله اللبناني في جوارها، كما أن الحلول البريطانية التي تراهن على أن تقدم إيران الورقة اليمنية على طبق مجاني هي حلول غير منطقية بل هي استنزاف للوقت ستحاول فيه طهران المقايضة السياسية.