الإرهاب والسياسة

بعد كل عملية إرهابية تشهدها العاصمة عدن أو أيٌ من الضواحي أو الطرق أو المدن المؤدية إليها، يتصاعد الصخب الإعلامي والكتابات والبيانات والبرقيات المعبرة عن الغضب والاستياء والتنديد، وتعلو الأصوات المستنكرة وتتسارع أصوات الشواذ بالتعاطي السطحي مع الحالة المنفردة وتوزيع الاتهامات، للضحايا غالبا، دون الغوص في عمق المشكلة وخلفياتها الفكرية الاجتماعية والسياسية، - وأقول السياسية لأن الإرهاب في اليمن بخلاف بقية بلدان العالم- ليس بمعزل عن الصراع السياسي الداخلي (على افتراض أن اليمن ما يزال في وضع الدولة الواحدة). العمليات الإرهابية التي تجري هنا وهناك ليست وليدة ما بعد 2015م ولا حتى مرحلة ثورة الحراك السلمية الجنوبية الرائعة ولا حتى ما بعد احتلال الجنوب في العام 1994م، بل إنها تمتد إلى الأيام الأولى لما بعد 22 مايو 1990م، ولسنا بحاجة إلى التذكير بكافة العمليات الإرهابية التي استهدفت قادة الحزب الاشتراكي اليمني ومعهم بعض الشخصيات الوطنية منذ العام 1990م حتى وصل الاستهداف إلى قصف منزل رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب وعضو مجلس الرئاسة ومحاولة اغتيال وزير العدل وااستهداف المناضل الوطني المعروف الفقيد عمر الجاوي وإصابته واغتيال زميله الشهيد حسن الحريبي وغيرها مئات العمليات المعروفة للجميع. ظل النظام الرسمي في صنعاء يبرر هذه العمليات بأنها تأتي في أطار تصفية الجنوبيين للحسابات السياسية مع بعضهم، ولم تبذل الأجهزة الرسمية أي جهد ولو على سبيل التمثيل المسرحي، للبحث عن مدان، . . . وهل يبحث الجاني عما يدين به نفسه؟ بعد 1994م صارت العلاقة بين الأجهزة الرسمية والجماعات الإرهابية أكثر انكشافاً ووضوحاً، وكانت المعسكرات التابعة لتنظيم القاعدة والأفغان العرب المنتشرة في أكثر من محافظة يمنية، وغالبا جنوبية، تتلقى تمويلها وتموينها بمختلف الاحتياجات من معسكرات الفرقة الأولى مدرع، وظلت تمارس نشاطها نهارا جهارا تحت مسمع ومرأى الرأي العام، بما في ذلك أجهزة المخابرات الدولية. الإرهاب ليس ظاهرة مرضية مجتمعية ولا هو انحراف أخلاقي أو شغب مجتمعي أو اعتراض سياسي على نهج وسياسات الأنظمة في البلدان التي ينتشر فيها، بل إنه حالة من حالات السياسة بهذا المستوى أو ذلك، لكنه في اليمن سياسة رسمية بكل معاني المفردات المعبرة عنه. في اليمن تعمل الجماعات الإرهابية ومنذ منتصف الثمانينات وربما نهاية السبعينات تحت رعاية الأجهزة الرسمية للسلطة، وهو أمر يعلمه القاصي والداني ارتبط بتفويج الشباب اليمنيين إلى أفغانستان أثناء التواجد السوفييتي هناك، واستقبلت اليمن بعد سقوط أفغانستان بيد طالبان، مع بداية التسعينات الآلاف من الأفغان العرب واستمرت العملية قبيل وبعد احتلال الجنوب عام 1994م ومساهمة تلك الجماعات في الحرب على الجنوب وقد جرى استيعاب الكثير من الأفغان اليمنيين، في مؤسسات الأمن والجيش والمخابرات، وفي الهيئات الحزبية العليا للحزبين الرئيسيين المنتصرين في الحرب خلال التسعينات وبداية الألفية الثالثة، ومنح الكثيرون الرتب العسكرية والألقاب الوظيفية العالية وصار منهم أعضاء مجلس استشاري ولجنة دائمة ولجنة عامة وهيئة عليا ومجلس شورى. وبعبارة أخرى إن الجماعات الإرهابية تعيش وتنشط وتتمون وتتغذى من الدولة وبأدوات الدولة وعبر أجهزتها، بل وتساهم في إدارة الدولة ورسم سياساتها ،ولم نسمع قط عن تدخل السلطات الرسمية في أية مواجهة مع تلك التنظيمات ولم تقدم أيا ممن تم القبض عليهم بتهم الإرهاب للمحاكمة ولم تقم بإدانة أي متهم، مثلما فعلت مع نشطاء الحراك السلمي والثورة السلمية، وكذا القادة العسكريين الذين تصدوا للانقلاب وحققوا الانتصارات على التحالف الانقلابي ثم تمت تصفيتهم جسديا في ظروف ما تزال ملتبسة. على إن القضية الأهم هنا والبادية لكل ذي عينيتن وحتى لمتوسطي الفطنة والذكاء، أن العمليات الإرهابية لهذه الجماعات لم تقم إلا في محافظات الجنوب، وهذا الأمر لا يحتاج إلى برهان أو تجميع قرائن، لكن السؤال المهم هو لماذا لا تنشط هذه الجماعات إلا في الجنوب ولا تستهدف إلا القيادات والكوادر والمناطق والمرافق الجنوبية؟ لن أتساءل لماذا لا تستهدف فلان أو علان من الأسماء غير الجنوبية، أو حتى الجنوبية المرتبطة بغزاة 1994م ولا حتى غزاة 2015م، فالكثيرون من هؤلاءِ بالنسبة لي زملاء وأصدقاء أو حتى ممن أختلف معهم سياسيا لكنني لا أتمنى لأحد الشر والأذى، بيد أن السؤال يظل مشروعا. وبكل اختصار: الإرهاب في الجنوب وعلى الجنوب والجنوبيين هو جزء أصيل من النهج السياسي لتحالفي 1994م، 2015م وقد يختلف التحالفان أو يتباينان في أشياء كثيرة أو حتى في كل الأشياء إلَّا في استهداف الجنوب والجنوبيين، فذلك ديدن الجميع طالما تمسك الشعب الجنوبي بقضيته وأصر على استعادة حقوقه المنهوبة والمدمرة في العامين 1994م و2015م بما فيها حق استعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة على حدود 21 مايو 1990م. لن أتحدث عما أدلى به أحد قادة العائدين من أفغانستان، حول ما طلب منه ومن رفاقه لتصفية قيادات ثورة الحراك السلمي الجنوبي بعد العام ٢٠٠٧م، لكن ما يجب أن يدركه الجنوبيون جميعا في سلطة الشرعية الجديدة أو القديمة أو خارج السلطة أن الإرهاب لن يزول من أرض الجنوب إلَّا في إحدى حالتين: إما الاستسلام لنتائج حربي الغزو البغيض على الجنوب في 1994م وفي 2015م وهي جميعها ما تزال ماثلة ويتحكم قادتها بصناعة المشهد السياسي العام في البلاد، وفي الجنوب على وجه الخصوص، وإما استعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة على كل أرض ما عرف تاريخيا بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وقبلها الجنوب العربي المحتل. كل هذا لا يعفي أحد اًمن الجنوبيين من واجبه في أن يكون جزءً من مكافحة الإرهاب بالوسائل المتوفرة لدى كل منا. الرحمة لشهداء الإرهاب والعمليات الإرهابية وجميع شهداء الحق والعدل والحرية، والشفاء للجرحى، والخزي والعار للقتلة والمجرمين ومموليهم ومستخدميهم ومخططي عملياتهم الإجرامية والله من وراء القصد