همس اليراع

في وداع قائد استثنائي!!

غادرنا فجر اليوم الجمعة (28 فبراير 2019م) القائد السياسي والشخصية الوطنية المعروفه المناضل الأستاذ علي صالح عباد "مقبل" الأمين العام الأسبق للحزب الاشتراكي اليمني، والنائب الأسبق لرئيس مجلس النواب اليمني، بعد صراعٍ طويل مع المرض، وبعد أن تعرض للإهمال والتجاهل والتضييق والابتزاز من قبل طرفي الصراع الأحمق في اليمن.
ليس من السهل الكتابة عن "مقبل" في هذه العجالة، لكن الحدث الجلل يقتضي التوقف العاجل للتعبير عن الحزن الكبير الذي يصيب كل من أحب هذا القائد وعمل معه وتشارك معه الأتراح الكثيرة والأفراح القليلة في زمن صار الفرح فيه شيئا من البذخ لا يحوزه إلا المترفون.
ينتمي مقبل إلى زمن القادة الاستثنائيين فقد كان من أوائل الذين انخرطوا في صفوف حركة القوميين العرب وشارك في تأسيس تنظيم الجبهة القومية وساهم في الكثير من العمليات الفدائية ضد الوجود الاستعماري وعملائه.
وبعد تحرير الجنوب من النظام الاستعماري وقيام الجمهورية الوليدة كان مقبل من أوائل المؤسسين للنظام الجديدة وشارك مع القادة المعروفين في تلك المرحلة في نشر التقاليد الجديدة في أرياف الجنوب ومحافظاته، كما ساهم بقوة في كافة فعاليات تنظيم الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي اليمني لاحقاً.
ما زلت أتذكر صوته المميز عبر المذياع وهو يرأس بعض جلسات المؤتمر العام الخامس لتنظيم الجبهة القومية الذي عقد في مارس 1972م وكنت حينها ما أزال تلميذا في نهاية المرحلة الابتدائية، وفي هذا المؤتمر انتخب مقبل رئيساً لسكرتارية اللجنة المركزية للجبهة القومية، وهي مهمة تضعه في المرتبة الثالثة تنظيمياً بعد الأمين العام والأمين العام المساعد، وكان مقبل يتميز بقدراته الفكرية والإبداعية في صياغة النظريات وتقديم المبادرات، وما يزال له كتاب منشور تضمن تلخيصاً مكثفاً للتحديات الماثلة أمام الثورة في ما عرف بمرحلة "الثورة الوطنية الديمقراطية" وهو عبارة عن سلسلة مقالات ذات صبغة بحثية وأكاديمية كانت قد نشرت تباعا في صحيفة الثوري.
اقتربت من القائد "مقبل" بعد انتخابي عضواً في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي في العام 2000م وتعلمت منه الكثير من القيم والسلوكيات السياسية، أهمها الصبر والمثابرة وعدم النفور من الآراء المغايرة وقبول التحديات وتقبل الموقف المخالف ودراسته والتعاطي معه بجدية اختلافاً أو اتفاقاً، وعندما انتخبت في مجلس النواب، وكلفت برئاسة الكتلة البرلمانية للحزب، كان مقبل هو المرجعية التي نستمد منها نحن البرلمانيين ثباتنا وتماسكنا (ومعظمنا جديدون على العمل البرلماني)، وبقدر ما كان "مقبل" يلهمنا في عملنا ويشجعنا على الاختيارات التي يراها صائبة كان يتقبل منَّا ما نقدمه من أفكار أو تصورات مخالفة لما يقترحه.
كان منزل "مقبل" في صنعاء مفتوحاً كل سبت وغالباً معظم الأيام لاستقبال زملائه من الناشطين الحزبيين ومن قادة بقية الأحزاب والمثقفين والأدباء وقادة الرأي والمواطنين العاديين، واستطاع أن يقدم مثلا حيا للقائد الحزبي الجماهيري المنفتح على كل الاتجاهات الفكرية والسياسية ولم ينغلق يوما على اتجاه سياسي معين أو يرفض التعامل مع سواه.
مما يحسب للمناضل علي صالح عباد "مقبل" أنه وبعد الحرب 1994م مثَّل الرائد الأبرز والأول لخط مواجهة الطغيان والاستبداد الذي أنتجته الحرب، ومعروف أنه بعيد انقشاع غبار المعارك واستعادة بعض الهدوء وانتصار ثقافة الغزو والاجتياح والاستباحة، دعا علي عبد الله صالح العديد من المثقفين والسياسيين والبرلمانيين، "وبراءة الأطفال في رجليه" كما تندر الأستاذ عبد الباري طاهر، وطرح أفكاراً وأقاويل من تلك التي اعتدنا سماعها منه، مما يسميه العدنيون بـ"الفراهة"، حيث دعا إلى فتح "صفحة جديدة" و"طي ملفات الماضي" وغير ذلك من العبارات الزئبقية التي كان يسوقها نظام 7/7 لاستغفال البعض والعبث بالحياة السياسية، ولما لم يعلق أحد على هذا الحديث فقد تصدى مقبل للتعليق بالمطالبة بعدد من الإجراءات الملموسة أهمها: وقف عمليات النهب التي تواصلت بعد الحرب، أيقاف مسلسل الاعتقالات والملاحقات للمخالفين في الرأي، إعادة الأملاك والمنشآت والأموال المنهوبة الفردية والعامة، ومنها أملاك ومقرات الحزب الاشتراكي، إعادة موظفي الدولة الجنوبيين إلى أعمالهم ممن تم فصلهم تعسفيا من أعمالهم، فتح باب لمصالحة وطنية حقيقية تلغي نتائج الحرب وترد الاعتبار للضحايا، ومطالب أخرى لا يتسع المجال لاستعراضها.
لم يكن الكثيرون يتوقعون الاستجابة لهذه المطالب لكن طرحها جاء كنوع من تبرئة الضمير وإشعار الطاغية بأن الطغيان والاستبداد لا يمكن السكوت عليهما، وقد شكلت تلك المقابلة متنفسا حتى لأولائك الذين لم يكونوا قد اعتادواإعلان مخالفتهم لنظام علي عبد الله صالح، وفي ضوئها جاء لاحقا تشكيل ما سمي بمجلس التنسيق لأحزاب المعارضة وفي سبتمبر من العام 1994م جرى انتخاب "مقبل" أميناً عاماً للحزب الاشتراكي اليمني. 
كان "مقبل" يواجه الخصوم السياسيين والمخالفين له بالرأي من رفاق دربه بالصبر والبصيرة النافذة والإنصات ومحاولات الإقناع بالحسنى، وبعد تعرضه للجلطة الدماغية لم يستسلم ويستكين بل واصل كفاحه النضالي ومهمته الوطنية في قيادة التحالف المعارض، والتهيئة للانتقال السلس بقيادة الحزب وتسليم الراية لرفاقه ومواصلته موقفه الوطني من خارج القيادة ولكن من نفس المنطلق السياسي المنحاز إلى ضحايا الظلم والاستبداد والرافض لسياسات الأمر الواقع والنزعات التسلطية.
كان "مقبل" نصيراً واضحاً لثورة الحراك السلمي الجنوبي، وللقضية الجنوبية، وشارك في أغلب الفعاليات السلمية في عدن وردفان والضالع وحضرموت وأبين، وكان خطابه السياسي ينطلق من حقيقة لا تقبل الدحض وهي أن وحدة 1990م قد ماتت في 7/7/1994م، وأن وحدة الحرب مهما تطاول زمنها إلى نهاية، وأن القضية الجنوبية لا تقبل الوأد والتعتيم والشطب، كما أيد "مقبل" الثورة الشبابية السلمية في الشمال التي طالبت برحيل علي عبد الله صالح ونظامه الاستبدادي.
كلنا يؤمن بحتمية الموت للصغير والكبير وللغني والفقير، لكن ما كنا نتمناه أن يبدي المتنفذون في الشأن اليمني قدراً من المسؤلية تجاه هذه الهامة الوطنية بعد أن تدهورت حالته الصحية وبلغت الوضع الحرج، لكن الطرفين المتصارعين حولا مقبل إلى مادة للمزايدة والابتزاز بروحه وصحته وحياته، فالحكومة التي أعلنت تبني علاجه ، لم تعمل شيئا يذكر، ولو التنسيق مع المبعوث الدولي لإخراج الرجل إلى بلد مناسب للعلاج، والحركة الانقلابية ربطت الإفراج عن مقبل بفتح مطار صنعاء، مما جعلنا ويجعلنا نؤكد أن مقبل توفى كضحية من ضحايا الإهمال والتجاهل والابتزاز وهي جناية لا يمكن أن تغتفر لطرفي الصراع في هذا البلد المغلوب على أمره.
لك الخلود أيها القائد الاستثنائي في الزمن الاستثنائي، ولروحك المجد في سجل الخالدين.
الرحمة والمغفرة لروحك، ولتكن جنة الخلد مثواك ومأواك مع الشهداء والصديقين والأوليا والصالحين.
صادق العزاء والمواساة لأهل الفقيد مقبل وذويه ورفاقه وزملائه، وكافة نشطاء الحزب الاشتراكي في القيادة والقاعدة ولكل قيادة وأفراد الحركة السياسية الوطنية في الشمال والجنوب.
والحمد لله على السراء والضراء و"إنا لله وإنا إليه راجعون"