الحب والحرب في فيلم عشرة أيام قبل الزفة

أعادني عنوان الفيلم العدني للمخرج المتألق عمرو جمال " عشرة أيام قبل الزفة" إلى الرواية العالمية الشهيرة "عشرة أيام هزت العالم" للكاتب الأمريكي جون ريد، والتي تؤرشف لتاريخ ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، وهو ما ليس حديثنا في هذه الوقفة، لكن التشابه في التسمية وفي بعض المشاهد والتعقيدات جعلني أشعر بأننا أمام مخرج وفريق تمثيل وإنتاج استطاعوا أن يقدموا عملاً كبيراً كان يمكنه أن يكون أكبر وأكثر شهرةً لو توفرت له البيئة الحاضنة والمؤسسة الإعلامية والثقافية التي تقوم بما عليها تجاه الإبداع والمبدعين.
الفيلم ما يزال يعرض في دور السينما (المحدودة) في عدن وفي العديد من دور السينما في بلدان عربية أخرى ولم يعرض كاملاً على أي وسيلة من وسائل ما اصطلح على تسميته بـ" الإعلام الجديد"، لكن ما نشر منه من مقاطع وما قيل عنه من تعليقات وما ناله من سمعة متميزة في بلد فاق فيها توفر الرصاص على الخبز، والبارود على صفحات الكتب، يؤكد لنا أن عدن تظل الاستثناء، وأن بذور العطاء والتفوق الحضاري والإبداعي والقيمي فيها لم ولن تندثر حتى في أجواء القصف والاغتيال والتفجير والسطو والابتلاع التي صارت جزءً من مشاهد الحياة منذ العام 1994م.
الفيلم يتناول قصة فتى وفتاة أحبا بعضهما واتفقا على الزواج وشرعا في تهيئة ما يقتضيه هذا الحدث الهام في حياتهما من مستلزمات وضرورات وكماليات مألوفة في كل المناسبات المشابهة، لكن اندلاع الحرب وتفشي مظاهرها قد أطاح أولا بحلمهما في الاحتفال بهذا الحدث التاريخي بالنسبة لهما ولمحبيهما، وثانيا بالموازنة التي رصداها لهذه المناسبة، فمن ناحية لا يمكن إقامة حفل زفاف في أجواء الحرب وما ينجم عنها من خراب وخوف ورعب وتفكك مجتمعي، ومن ناحية فإن انهيار العملة وارتفاع الأسعار فضلا عن ظهور مصاريف جديدة فرضتها أجواء الحرب، كل هذا قد أدى إلى نفوق الموازنة وانهيار حلم الزفاف (الزفَّة).
وما أن تتوقف عمليات المجابهة وتبدأ المدينة في استعادة بعض هدوئها ويبدأ الحبيبان في إعادة التخطيط "للزفة" ويحددا يوم الزفاف حتى تصعد إلى سطح حياتهما المشاكل والمعوقات، وفي كل يوم تظهر مشكلة تأخذ من جهدهما وطاقاتهما الكثير، وهو ما يضيف المزيد من متاعب الوصول إلى يوم "الزفة"
لكن إصرار الحبيبين على التشبث بالأمل وقهر المصاعب والعوائق والوصول إلى حلمهما قد ذلل تلك العوائق وحفزهما في قهر ما استصعب منها والوصول إلى يوم "الزفة".
الفيلم يلخص ما تنتجه الحروب من مآسي وما تطيح به من آمال وما تزرعه من مطبات ومنحدرات في طريق الحياة، وما تنتجه من قيم وممارسات غريبة على المجتمع الذي تنشب فيه، لكنه بنفس الوقت يبرهن حتمية انتصار الحياة على الموت والحب على الحرب والجمال على القبح وصيرورة الحياة على ما يكتنفها من شرور.
الفيلم دخل في منافسة مع ثلاثين فيلما عالميا في مهرجان أسوان لأفلام المرأة وحصل على الجائزة الأولى ونال إعجاب العديد من النجوم العرب والعالميين، وهي علامة إضافية للتميز والتفوق لفيلم قادم من بلد تجتاحها كل عوامل الإحباط والتراجع.
وأخيراً ومع كل التقدير والإعجاب بكل من اشترك في إنتاج هذا العمل الجميل من الممثلين والممثلات وفريق التصوير والإدارة وغيرها، أشير إلى شخص المخرج المتألق عمرو جمال، فقد شاهدت له منذ نحو عقد من الزمان مسرحية "معك نازل" والتي حظيت بإعجاب ومتابعة كبيرين وشاهدها الناس باستمتاع قل نظيره، وشخصيا شاهدت لها ثلاثة عروض ولم أشبع مما فيها من جماليات ومشاهد ومقالب ولحظات تجمع بين التراجيدي والكوميدي، بين الجاد والساخر، لإيصال مجموعة من الرسائل المهمة إلى المشاهد ولكل ذوي الشأن، هذا الفنان المدهش يبرهن في كل مرة على أن الموهبة المتألقة عندما تقترن بالإرادة والإصرار يمكنهما معاً قهر ما يراه البعض مستحيلاً.
إنتاج هذا الفيلم عملٌ عظيم، لكن انتاجه في ظروف ما بعد الحرب وفي أجواء يحرص البعض على تصويرها بأنها طاردة ومخيفة ينتشر الرعب في كل مفاصلها، يمثل تحدياً كبيراً وعملاً أعظم وبرهاناً على أن عدن كنز من العطاء وطاقة من التفوق واختراق جدي لكل عناصر التثبيط والإحباط والإعاقة.
تحية وتقدير للمخرج المتألق "عمرو جمال" ولكل فريق "عشرة أيام قبل الزفة".