ذهب البشير فهل جاءت البشرى؟؟؟

هكذا هي الدوائر، تدور والباغي لا يحس بدورتها لأنه يتوقف عند النقطة التي بدأ منها في يومه الأول.
من غرائب الحكام العرب أنهم لا يتعلمون من تجاربهم الحياتية وما فيها من أخطاء، فما إن يصعد الحاكم إلى كرسي الحكم حتى يبدأ ليس في إبراز وصناعة نقاط تفوق على سابقيه وبناء نظام مؤسسي يؤمن سير البلاد في طريق سليم وتصاعدي لخدمة الوطن والمواطن، بل ومع استثناءات قليلة جداً، ظل الحاكم العربي يركز كل جهوده على الكيفية التي يؤمن بها بقاءه في الحكم لأطول فترة ممكنة وغالباً مدى الحياة والتهيئة لنوريث الأبناء والأحفاد، وبدلاً من بناء المؤسسات الانتاجية والخدمية والاهتمام بنشر العلم والتكنولوجيا ورفع مستوى معيشة الشعب والاستثمار الأكثر فعالية للموارد لصالح تنمية الوطن وخدمة المواطن، يشرع الحاكم العربي في بناء مؤسسات مخابراتية وأمنية مخلصة له وإزاحة بل واعتقال (وربما التنكيل بـ)
معارضيه السياسيين ومخالفيه في الرأي.
في جلسة لي مع بعض الزملاء السودانيين قبل حوالي عشرين سنة، أي بعد عشر سنوات على انقلاب البشير، قال لي هؤلاء الزملاء أن سعر الدولار الأمريكي قبل انقلاب البشير كان حوالي ثلاثة جنيهات سودانية، وقال أنصار البشير حينها أنه لولا "ثورة الإنقاذ” لبلغ سعر الدولار 18 جنيها سودانياً، وكان سعر الصرف قد تجاوز حينها (1999م) المائة جنيه، وعندما زرت الخرطوم في العام 2007م كان لدى السودانيين نوعين من العملة (الجنيه الجديد وبجانبه الجنيه القديم) بحيث على ما أتذكر كان الجنيه الجديد يساوي مائة جنيه قديم، أما سعر الصرف فقد تضاعف مراراً وأعتقد أن الدولار قد تجاوز المائة جنيه جديد ( أي حوالي عشرة آلاف (جنيه قديم)، من ذلك الذي قال أنصار البشير أنه كان سيصل سعر الدولار إلى 18 منه).
قصص البشير ونظامه العسكري مع الشعب السوداني طويلة وعديدة ومؤلمة ككل الطغاة في العالم، لكن تكفي الإشارة إلى أن معالم رفض نظام البشير قد بدأت تلوح في الأفق منذ وقت مبكر عندما بدأ في قمع شركاءه في الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة في العام 1989م بزعامة المرحوم حسن الترابي، وقمع الفعاليات الاحتجاجية بالقوة المسلحة في أبريل 2017م وقبلها إطلاق مليشيات الجنجويد ضد الشعب في دارفور وما ارتكبته من جرائم في حق المدنيين هناك.
الانتفاضة الشعبية الأخيرة وجهت رسائل مهمة لحاكم السودان بأن الكيل قد طفح، وأن نهج النظام وتركيبته وسياساته الخائبة قد غدت مرفوضة كلياً، وأن لعبة الخداع والتضليل لم تعد تنطلي على الشعب السوداني وقواه السياسية، وأن على البشير أن يرحل ومعه كل خيباته وسياساته الكارثية، لكن هذا الجنرال لا يجيد قراءة الرسائل فراح يجري ترقيعات في بناء منظومته الحاكمة بتغيير بعض الأسماء وترفيع البعض الآخر ومحاولة تجميل وجه منظومته الشائخة بمساحيق أكثر قبحا من وجهها القبيح.
سقط البشير فهل ستسقط منظومة حكمه؟ وهل سيكون تدخل الجيش لصالح الاستجابة لمطالب وتطلعات الشعب السوداني؟ أم أنه سيقوم بإعادة أنتاج المنظومة البشيريةمن جديد؟
للجيش السوداني تجارب حميدة لن ينساها التاريخ فما تزال ثورة العقيد عبد الرحمن سوار الذهب طريةً في ذاكرة السودانيين والعرب عندما أزاح جعفر النميري وسلم السلطة لحكومة ديمقراطية منتخبة شعبيا بقيادة حزب الأمة الذي يرأسه السيد الصادق المهدي التي انقلب عليها عمر البشير من داخل الجيش نفسه.
* * *
كتب هذا المنشور قبيل صدور بيان اللجنة الأمنية الذي أذاعه وزير الدفاع والنائب السابق للبشير، وما تضمنه من قضايا تابعها الجميع، وأهم ما جاء فيه هو عزل البشير وإيقاف العمل بالدستور وتشكيل مجلس عسكري انتقالي لدة عامين، وهو ما جعل الكثير من المتابعين يعتبرون ما جرى مجرد تغيير طفيف في منظومة ما تزال تحتفظ بكل شخوصها المرتبطة بنظام البشير مستمرة في إدارة حياة السودانيين.