المتاجرة بالمعاناة
التجارة ليست عينية بالمطلق، فهناك انواع اخرى من التجارة يقع على راسها التوظيف السياسي لمعاناة الناس بهدف الضغط على هذا الطرف السياسي او ذاك، او حتى هذه الدولة او تلك بقصد الابتزاز السياسي او حتى المادي، وهذا النوع من المتاجرة يوظف احيانا في صورة مبررات اخلاقية للحروب حتى وان لم تكن هذه المعاناة سببا مباشرا لهذه الحروب، وكما يقال، كل شيء جائز في الحب والحرب، وربما ان معاناة الناس في الجنوب ترجع في سبب من اسبابها الى غياب حالة توافق جنوبية.
اثلج صدورنا الانفراج الذي حدث مؤخرا في العلاقة بين الرئيس هادي والاشقاء في دولة الامارات، وبغض النظر عن التنازل الذي قدمه اي طرف للاخر فأن النتيجة كانت الخروج من حالة الى حالة افضل لعلنا لمسنا نتائجها الايجابية سريعا وعلى اكثر من صعيد، واذكر انني سمعت من الاخ الوزير احمد الميسري بوادر الانفراج قبيل زيارته لدولة الامارات التي تمت بدعوة كريمة من القيادة الاماراتية.
ولعل المقام يسمح بأن اطلع القارئ الكريم عن واقعة حدثت لي وللوزير احمد الميسري بوصفه السياسي الجنوبي صاحب الطروحات الاكثر اثارة للجدل في الشارع الجنوبي وصديق ثالث وهي واقعة شهود جزء من تفاصيلها لا زالوا احياء، اطال الله اعمارهم.
كنت ذات يوم من شهر فبراير 2008 في صنعاء، كانت تجمعنا جلسة قات في الفندق الذي كنت انزل فيه وكانت ثالثنا، الميسري وانا، الاخ عمر باهارون، ان لم تخني الذاكرة، كنا في جلسة القات تلك نتجاذب اطراف حديث لم يخلو من دفاعي عن وجهة نظري بفشل الوحدة فيما كان الوزير الميسري يدافع عن وجهة نظره بامكانية اصلاح ما علق بها من اخطاء، وبالمناسبة، لم يكن حينها يشغل اي منصب رسمي في الدولة لكنه كان عضوا في اعلى سلم الهرم الحزبي في المؤتمر الشعبي العام.
رن هاتفي وكان المتصل الصديق العزيز احمد عمر بن فريد، الذي سالني، هل لا زلت في صنعاء؟ ثم اخبرني بالاعتداء على منزل صديقنا واستاذنا عطر الذكر هشام باشراحيل رحمة الله تغشاه.
في ذلكم الوقت كان حراك الشارع الجنوبي في عنفوانه وكان الرئيس صالح لا يود صحيفة الايام ولا صاحبها وذلك كان عنوان لحالة هستيرية يمنية ضد اهل الجنوب، واردت عدم احراج الصديق احمد الميسري مع رئيسه بالذهاب معي لكنه قطع حالة الصمت بأن قال لي بالحرف (قوم با نطمئن على صاحبنا) وحين وصلنا الى منزل هشام وجدناه محاط بالعساكر الذين كانوا يعتلون حتى سطح البيت لكنهم لم يمنعوا احد من الدخول، وعندما عرفهم الميسري بنفسه وسأل قائد العسكر عن سبب هذا التواجد الكثيف قال انهم مكلفون بحماية هشام باشراحيل.
دخلنا الى المنزل وكان يعج بالجنوبيين في صنعاء من مختلف الطيف السياسي الجنوبي ثم سلمنا عليه حتى انني حين انحيت للسلام عليه همس لي وهو يضحك بقفشة من احدى قفشاته الجريئة التي لا تصلح للنشر، وبعد ان عرفنا تفاصيل ما حدث استأذنا هشام بالمغادرة فأذن لنا، وتفاصيل الاعتداء وما اعقبه اصبحت معروفة ولا زال احمد العبادي المرقشي سجينا ظلما وتجبر.
عود على بدء، وكما سبق وكتبت فأن (مأوى العرجاء الجنوب) وقلناها ونقولها، لا خيار امام الجنوبيين الا المشاركة والتوافق بغض النظر عن وجهات النظر، فعندما تتحول وجهات النظر الى سبب للعداوة فأن المجتمع، اي مجتمع، يتحول الى قنبلة تنتظر من يشعل فتيلها، هذا علاوة على ان معاناة الناس اصبحت وسيلة للابتزاز او نوع من المتاجرة السياسية في جو الاحتقان، هذ علاوة على ان بعض خصومنا لا زالوا يحملون نفس القلوب التي بغضونا بها خلال سنوات ما بعد 2007م وما قبلها.
نحن بحاجة الى انفراجة اخرى تعقب الانفراجة بين الرئيس هادي والقيادة الاماراتية، ولا اذيع سرا اذا قلت ان قيادة المجلس الانتقالي والجنوبيين في السلطة يتحملون الوزر الاكبر في حالة فشل التوافق، مع احترام كل طرف لوجهة نظر الاخر، وان تصبح خدمة الناس هدفا للتسابق لا وسيلة للابتزاز والمماحكة، ومن يحسم في امر الجنوب هو الشارع الجنوبي، ولعله من المفيد التذكير بأن هناك من نذروا انفسهم للاساءة للجنوبيين رغم التضحيات التي يقدمها ابناءنا في معارك تحرير (الشمال) في اكثر من جبهة وهي حالة تذكرنا بذيل الكلب كما يقول المثل العامي (ذيل الكلب عمره ما ينعدل) مع الاعتذار لك عزيزي القارئ.